فصل: كِتَابُ الْبُيُوعِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.كِتَابُ الْبُيُوعِ:

قَالَ: (الْبَيْعُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ إذَا كَانَا بِلَفْظَيْ الْمَاضِي) مِثْلَ أَنْ يَقول أَحَدُهُمَا بِعْت وَالْآخَرُ اشْتَرَيْت؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ إنْشَاءُ تَصَرُّفٍ، وَالْإِنْشَاءُ يُعْرَفُ بِالشَّرْعِ وَالْمَوْضُوعُ لِلْإِخْبَارِ قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِيهِ فَيَنْعَقِدُ بِهِ.
وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ أَحَدُهُمَا لَفْظُ الْمُسْتَقْبَلِ وَالْآخَرُ لَفْظُ الْمَاضِي، بِخِلَافِ النِّكَاحِ، وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ هُنَاكَ.
وَقولهُ رَضِيت بِكَذَا أَوْ أَعْطَيْتُك بِكَذَا أَوْ خُذْهُ بِكَذَا فِي مَعْنَى قولهِ بِعْت وَاشْتَرَيْت؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ، وَالْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ، وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ بِالتَّعَاطِي فِي النَّفِيسِ وَالْخَسِيسِ هُوَ الصَّحِيحُ لِتَحَقُّقِ الْمُرَاضَاةِ.
الشَّرْحُ:
كِتَابُ الْبُيُوعِ:
عُرِفَ أَنَّ مَشْرُوعَاتِ الشَّارِعِ مُنْقَسِمَةٌ إلَى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى خَالِصَةً، وَحُقُوقِ الْعِبَادِ خَالِصَةً، وَمَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْحَقَّانِ وَحَقُّهُ تَعَالَى غَالِبٌ.
وَمَا اجْتَمَعَا فِيهِ وَحَقُّ الْعِبَادِ غَالِبٌ.
فَحُقُوقُهُ تَعَالَى عِبَادَاتٌ وَعُقُوبَاتٌ وَكَفَّارَاتٌ، فَابْتَدَأَ الْمُصَنِّفُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْخَالِصَةِ وَغَيْرِهَا حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِ أَنْوَاعِهَا، ثُمَّ شَرَعَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَهِيَ الْمُعَامَلَاتُ، ثُمَّ فِي تَرْتِيبِ خُصُوصِ بَعْضِ الْأَبْوَابِ عَلَى بَعْضِ مُنَاسَبَاتٍ خَاصَّةٍ ذُكِرَتْ فِي مَوَاضِعِهَا، وَوَقَعَ فِي آخِرِهَا تَرْتِيبُ أَوَّلِ أَقْسَامِ حُقُوقِ الْعِبَادِ: أَعْنِي الْبَيْعَ عَلَى الْوَقْفِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَقْفَ إذَا صَحَّ خَرَجَ الْمَمْلُوكُ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ لَا إلَى مَالِكٍ.
وَفِي الْبَيْعِ إلَى مَالِكٍ فَنَزَلَ الْوَقْفُ فِي ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْبَسِيطِ مِنْ الْمُرَكَّبِ، وَالْبَسِيطُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُرَكَّبِ فِي الْوُجُودِ فَقَدَّمَهُ فِي التَّعْلِيمِ، هَكَذَا ذَكَرَ.
وَلَا يَخْفَى شُرُوعُهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ مِنْ زَمَانٍ، فَإِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ اللُّقَطَةِ وَاللَّقِيطِ وَالْمَفْقُودِ وَالشَّرِكَةِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ.
ثُمَّ الْبَيْعُ مَصْدَرٌ؛ فَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَفْعُولُ فَيُجْمَعُ بِاعْتِبَارِهِ كَمَا يُجْمَعُ الْمَبِيعُ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى وَهُوَ الْأَصْلُ فَجَمْعُهُ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهِ، فَإِنَّ الْبَيْعَ يَكُونُ سَلَمًا وَهُوَ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ، وَقَلَبَهُ وَهُوَ الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ، وَصَرْفًا وَهُوَ بَيْعُ الثَّمَنِ بِالثَّمَنِ، وَمُقَابَضَةً وَهُوَ بَيْعُ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ وَبِخِيَارٍ وَمُنْجَزٍ أَوْ مُؤَجَّلِ الثَّمَنِ، وَمُرَابَحَةً وَتَوْلِيَةً وَوَضِيعَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ.
وَالْبَيْعُ مِنْ الْأَضْدَادِ، يُقَالُ بَاعَهُ: إذَا أَخَّرَ الْعَيْنَ عَنْ مِلْكِهِ إلَيْهِ، وَبَاعَهُ: أَيْ اشْتَرَاهُ، وَيَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِالْحَرْفِ، بَاعَ زَيْدٌ الثَّوْبَ وَبَاعَهُ مِنْهُ.
وَأَمَّا مَفْهُومُهُ لُغَةً وَشَرْعًا فَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: الْبَيْعُ لُغَةً: مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَكَذَا فِي الشَّرْعِ، لَكِنْ زِيدَ فِيهِ قَيْدُ التَّرَاضِي.اهـ.
وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ التَّرَاضِيَ لَا بُدَّ مِنْهُ لُغَةً أَيْضًا، فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مَنْ بَاعَهُ وَبَاعَ زَيْدٌ عَبْدَهُ إلَّا أَنَّهُ اُسْتُبْدِلَ بِهِ بِالتَّرَاضِي، وَأَنَّ الْأَخْذَ غَصْبًا وَإِعْطَاءَ شَيْءٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ تَرَاضٍ لَا يَقول فِيهِ أَهْلُ اللُّغَةِ بَاعَهُ.
وَشَرْعِيَّةُ الْبَيْعِ بِالْكِتَابِ وَهُوَ قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَالسُّنَّةُ وَهِيَ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ إنَّ بَيْعَكُمْ هَذَا يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْكَذِبُ فَشُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ» وَبَعَثَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالنَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَقَرَّرَهُمْ عَلَيْهِ.
وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَيْهِ.
وَسَبَبُ شَرْعِيَّتِهِ تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمَعْلُومِ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ جَمِيلٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ اسْتَقَلَّ بِابْتِدَاءِ بَعْضِ حَاجَاتِهِ مِنْ حَرْثِ الْأَرْضِ ثُمَّ بَذْرِ الْقَمْحِ وَخِدْمَتِهِ وَحِرَاسَتِهِ وَحَصْدِهِ وَدِرَاسَتِهِ ثُمَّ تَذْرِيَتِهِ ثُمَّ تَنْظِيفِهِ وَطَحْنِهِ بِيَدِهِ وَعَجْنِهِ وَخَبْزِهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَفِي الْكَتَّانِ وَالصُّوفِ لِلِبْسِهِ وَبِنَاءِ مَا يُظِلُّهُ مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَدْفَعَهُ الْحَاجَةُ إلَى أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا وَيَبْتَدِئَ مُزَاوَلَةَ شَيْءٍ، فَلَوْ لَمْ يُشَرَّعْ الْبَيْعُ سَبَبًا لِلتَّمْلِيكِ فِي الْبَدَلَيْنِ لَاحْتَاجَ أَنْ يُؤْخَذَ عَلَى التَّغَالُبِ وَالْمُقَاهَرَةِ أَوْ السُّؤَالِ وَالشِّحَاذَةِ أَوْ يَصْبِرَ حَتَّى يَمُوتَ وَفِي كُلٍّ مِنْهَا مَا لَا يَخْفَى مِنْ الْفَسَادِ.
وَفِي الثَّانِي مِنْ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ وَيُزْرِي بِصَاحِبِهِ.
فَكَانَ فِي شَرْعِيَّتِهِ بَقَاءُ الْمُكَلَّفِينَ الْمُحْتَاجِينَ وَدَفْعُ حَاجَتِهِمْ عَلَى النِّظَامِ الْحَسَنِ.
وَشَرْطُهُ فِي الْمُبَاشِرِ: التَّمْيِيزُ وَالْوِلَايَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْكَائِنَةُ عَنْ مِلْكٍ أَوْ وَكَالَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ قَرَابَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَيَصِحُّ بَيْعُ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ اللَّذَيْنِ يَعْقِلَانِ الْبَيْعَ وَأَثَرَهُ.
وَفِي الْمَبِيعِ كَوْنُهُ مَالًا مُتَقَوِّمًا شَرْعًا مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ فِي الْحَالِ أَوْ فِي ثَانِي الْحَالِ فَيَدْخُلُ السَّلَمُ وَقَدْ قَالُوا شُرُوطُهُ: مِنْهَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ وَهُوَ التَّمْيِيزُ وَالْوِلَايَةُ وَكَوْنُ الْمَبِيعِ مُتَقَوِّمًا.
وَمِنْهَا شَرْطُ النَّفَاذِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَالْوِلَايَةُ، حَتَّى إذَا بَاعَ مِلْكَ غَيْرِهِ تَوَقَّفَ النَّفَاذُ عَلَى الْإِجَازَةِ مِمَّنْ لَهُ الْوِلَايَةُ.
وَأَمَّا رُكْنُهُ فَالْفِعْلُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْبَدَلَيْنِ مِنْ الْمُتَخَاطِبَيْنِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمَا الدَّالُّ عَلَى الرِّضَا بِتَبَادُلِ الْمِلْكِ فِيهِمَا وَهَذَا مَفْهُومُ الِاسْمِ شَرْعًا.
وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لَفْظُ الْفِعْلِ قولا، وَقَدْ يَكُونُ فِعْلًا غَيْرَ قول كَمَا فِي التَّعَاطِي كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ يَكُونُ الرِّضَا ثَابِتًا، وَقَدْ لَا يَكُونُ فَإِنَّ لَفْظَ بِعْت مَثَلًا لَيْسَ عِلَّةً لِثُبُوتِ الرِّضَا بَلْ أَمَارَةٌ عَلَيْهِ.
فَقَدْ يَتَحَقَّقُ مَعَ انْتِفَائِهِ كَالْغَيْمِ الرَّطْبِ لِلْمَطَرِ، فَكَذَا يَتَحَقَّقُ بِعْت وَاشْتَرَيْت وَلَا رِضَا كَمَا فِي الْمُكْرَهِ، وَهَذَا عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ حَقِيقَةَ التَّرَاضِي لَيْسَ جُزْءَ مَفْهُومِ الْبَيْعِ الشَّرْعِيِّ بَلْ شَرْطُ ثُبُوتِ حُكْمِهِ شَرْعًا.
قولهُ: (الْبَيْعُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ) يَعْنِي إذَا سَمِعَ كُلٌّ كَلَامَ الْآخَرِ.
وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ لَمْ أَسْمَعْهُ وَلَيْسَ بِهِ وَقَدْ سَمِعَهُ مَنْ فِي الْمَجْلِسِ لَا يُصَدَّقُ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْبَيْعِ هُنَا الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ الْخَاصُّ الْمَعْلُومُ حُكْمُهُ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ يَنْعَقِدُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَجَعَلَهُمَا غَيْرَهُ يَثْبُتُ هُوَ بِهِمَا مَعَ أَنَّ الْبَيْعَ لَيْسَ إلَّا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ؛ لِأَنَّهُمَا رُكْنَاهُ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ آنِفًا مِنْ أَنَّ رُكْنَهُ الْفِعْلُ الدَّالُّ إلَى آخِرِهِ.
هَذَا وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيْعِ هُنَا لَيْسَ إلَّا نَفْسَ حُكْمِهِ لَا مَعْنَى لَهُ ذَلِكَ الْحُكْمُ، وَمَا قِيلَ الْبَيْعُ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنًى شَرْعِيٍّ يَظْهَرُ فِي الْمَحَلِّ عِنْدَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ حَتَّى يَكُونَ الْعَاقِدُ قَادِرًا عَلَى التَّصَرُّفِ لَيْسَ غَيْرُ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْمِلْكُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ قُدْرَةُ التَّصَرُّفِ.
فَالْمُتَحَقِّقُ مِنْ الشَّرْعِ لَيْسَ إلَّا ثُبُوتُ الْحُكْمِ الْمَعْلُومِ مِنْ تَبَادُلِ الْمِلْكَيْنِ عِنْدَ وُجُودِ الْفِعْلَيْنِ: أَعْنِي الشَّطْرَيْنِ بِوَضْعِهِمَا سَبَبًا لَهُ شَرْعًا، وَلَيْسَ هُنَا شَيْءٌ ثَالِثٌ، فَالْمِلْكُ هُوَ قُدْرَةٌ يُثْبِتُهَا الشَّارِعُ ابْتِدَاءً عَلَى التَّصَرُّفِ فَخَرَجَ نَحْوُ الْوَكِيلِ.
فَإِذَا امْتَنَعَ أَنْ يُرَادَ الْفِعْلُ الْخَاصُّ لَزِمَ الْآخَرُ.
وَالْإِيجَابُ لُغَةً الْإِثْبَاتُ لِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ، وَالْمُرَادُ هُنَا إثْبَاتُ الْفِعْلِ الْخَاصِّ الدَّالِ عَلَى الرِّضَا الْوَاقِعِ أَوَّلًا سَوَاءٌ وَقَعَ مِنْ الْبَائِعِ كَبِعْتُ أَوْ مِنْ الْمُشْتَرِي كَأَنْ يَبْتَدِئَ الْمُشْتَرِي فَيَقول اشْتَرَيْت هَذَا بِأَلْفٍ وَالْقَبُولُ الْفِعْلُ الثَّانِي، وَإِلَّا فَكُلٌّ مِنْهُمَا إيجَابٌ، أَيْ إثْبَاتٌ، فَسُمِّيَ الْإِثْبَاتُ الثَّانِي بِالْقَبُولِ تَمْيِيزًا لَهُ عَنْ الْإِثْبَاتِ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّهُ يَقَعُ قَبُولًا وَرِضًا بِفِعْلِ الْأَوَّلِ، وَحَيْثُ لَمْ تَصِحَّ إرَادَةُ اللَّفْظَيْنِ بِالْبَيْعِ بَلْ حُكْمُهُمَا وَهُوَ الْمِلْكُ فِي الْبَدَلَيْنِ وَجَبَ أَنْ يُرَادَ بِقولهِ يَنْعَقِدُ يَثْبُتُ: أَيْ الْحُكْمُ فَإِنَّ الِانْعِقَادَ إنَّمَا هُوَ لِلَّفْظَيْنِ لَا لِلْمِلْكِ أَيْ انْضِمَامُ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ عَلَى وَجْهٍ يَثْبُتُ أَثَرُهُ الشَّرْعِيُّ، وَقولنَا فِي الْقَبُولِ إنَّهُ الْفِعْلُ الثَّانِي يُفِيدُ كَوْنَهُ أَعَمَّ مِنْ اللَّفْظِ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مِنْ الْفُرُوعِ مَا لَوْ قَالَ كُلْ هَذَا الطَّعَامِ بِدِرْهَمٍ فَأَكَلَهُ تَمَّ الْبَيْعُ وَأَكْلُهُ حَلَالٌ وَالرُّكُوبُ وَاللُّبْسُ بَعْدَ قول الْبَائِعِ ارْكَبْهَا بِمِائَةٍ وَالْبَسْهُ بِكَذَا رِضًا بِالْبَيْعِ، وَكَذَا إذَا قَالَ بِعْتُكَهُ بِأَلْفٍ فَقَبَضَهُ، وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا كَانَ قَبْضُهُ قَبُولًا، بِخِلَافِ بَيْعِ التَّعَاطِي فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إيجَابٌ بَلْ قَبْضٌ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الثَّمَنِ فَقَطْ وَسَيَأْتِي، فَفِي جَعْلِ مَسْأَلَةِ الْقَبْضِ بَعْدَ قولهِ بِعْتُكَ بِأَلْفٍ مِنْ صُوَرِ التَّعَاطِي كَمَا فَعَلَ بَعْضُهُمْ نَظَرٌ.
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ قَالَ: اشْتَرَيْت مِنْك هَذَا بِكَذَا فَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى هَؤُلَاءِ فَفَعَلَ الْبَائِعُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا جَازَ، وَكَذَا اشْتَرَيْت مِنْك هَذَا الثَّوْبَ بِكَذَا فَاقْطَعْهُ لِي قَمِيصًا فَقَطَّعَهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ.
وَقولهُ (إذَا كَانَا بِلَفْظِ الْمَاضِي مِثْلَ أَنْ يَقول أَحَدُهُمَا بِعْت وَالْآخَرُ اشْتَرَيْت) قَالَ الْمُصَنِّفُ (لِأَنَّ الْبَيْعَ إنْشَاءُ تَصَرُّفٍ) أَيْ إثْبَاتُ تَصَرُّفٍ يُفِيدُ حُكْمًا يَثْبُتُ جَبْرًا (وَالْإِنْشَاءُ) عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا (يُعْرَفُ) إلَّا (بِالشَّرْعِ) لِمَا فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ مَعْنًى يَكُونُ اللَّفْظُ عِلَّةً لَهُ، وَالْعَبْدُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إنَّمَا لَهُ قُدْرَةُ الْإِخْبَارِ عَنْ الْكَائِنِ أَوْ مَا سَيَكُونُ وَطَلَبُهُ، فَقولهُمْ مِنْ الْإِنْشَاءِ التَّمَنِّي وَالتَّرَجِّي وَالْقَسَمُ وَالِاسْتِفْهَامُ اصْطِلَاحٌ فِي تَسْمِيَةِ مَا لَا خَارِجَ لِمَعْنَاهُ يُطَابِقُهُ أَوْ لَا يُطَابِقُهُ إنْشَاءٌ، وَهُوَ يَعُمُّ مَا ذُكِرَ وَغَيْرَهُ مِمَّا يُبَايِنُهُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لَفْظَ لَعَلَّ زَيْدًا يَأْتِي وَلَيْتَ لِي مَالًا لَيْسَ عِلَّةً لِتَرَجِّي ذَلِكَ أَوْ تَمَنِّيهِ بَلْ دَالٌّ عَلَى التَّرَجِّي وَالتَّمَنِّي الْقَائِمَيْنِ بِالْمُتَكَلِّمِ كَأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ قِيَامِهِمَا بِهِ، غَيْرَ أَنَّ أَهْلَ الِاصْطِلَاحِ لَا يُسَمُّونَهُ إخْبَارًا لِمَا قُلْنَا، بِخِلَافِ بِعْت وَطَالِقٌ فَإِنَّهُ عِلَّةٌ تَثْبُتُ بِهِ شَرْعًا مَعَانٍ لَا قُدْرَةَ لِلْمُتَكَلِّمِ عَلَى إثْبَاتِهَا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِنْشَاءَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُمْكِنُ إلَّا مِمَّنْ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ سَوَاءٌ سُمِّيَ غَيْرُهُ إنْشَاءً اصْطِلَاحًا أَوْ لَا، وَإِذَا كَانَ الْإِنْشَاءُ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالشَّرْعِ، وَلَمْ يُوضَعْ لَهُ فِي اللُّغَةِ لَفْظٌ يَخُصُّهُ.
وَالشَّرْعُ اسْتَعْمَلَ فِي إثْبَاتِهِ مِنْ اللُّغَةِ لَفْظَ الْخَبَرِ: أَيْ وَضَعَهُ عِلَّةً لِإِثْبَاتِهِ تَعَالَى ذَلِكَ الْمَعْنَى عِنْدَهُ فَيَنْعَقِدُ: أَيْ يَثْبُتُ بِهِ.
وَأَمَّا تَعْلِيلُهُ بِأَنَّ لَفْظَ الْمَاضِي أَدَلُّ عَلَى الْوُجُودِ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِتَحَقُّقِ الْوُجُودِ سَابِقًا فَاخْتِيرَ لَهُ فَرُبَّمَا يُعْطَى قَصْرَ الْعِلِّيَّةِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ الْوَجْهُ أَنَّهُ تَعْلِيلُ أَوْلَوِيَّةِ لَفْظِ الْمَاضِي بِأَنْ يُسْتَعْمَلَ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ كَمَا سَتَسْمَعُ.
قولهُ: (وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ أَحَدُهُمَا لَفْظُ الْمُسْتَقْبَلِ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ) فَإِنَّهُ إذَا قَالَ زَوِّجْنِي فَقَالَ زَوَّجْتُك يَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، أَمَّا الْبَيْعُ فَإِذَا قَالَ بِعْنِيهِ بِأَلْفٍ فَقَالَ بِعْتُك لَا يَنْعَقِدُ حَتَّى يَقول الْأَوَّلُ اشْتَرَيْت وَنَحْوَهُ، وَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا قَالَ الطَّحَاوِيُّ إنَّهُ يَنْعَقِدُ بِثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ.
قَالَ: (وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ هُنَاكَ) يَعْنِي قولهُ؛ لِأَنَّ هَذَا تَوْكِيلٌ: يَعْنِي زَوِّجْنِي، فَإِذَا قَالَ زَوَّجْتُك كَانَ مُمْتَثِلًا أَمْرَ الْمُوَكِّلِ مُزَوِّجًا لَهُ وَوَلِيًّا لِمَنْ زَوَّجَهَا وَالْوَاحِدُ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ عَقْدِ النِّكَاحِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ.
وَقَدَّمْنَا مَنْ قَالَ إنَّ لَفْظَةَ الْأَمْرِ فِي النِّكَاحِ جُعِلَتْ إيجَابًا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يُصَرَّحُ بِالْخِطْبَةِ فِيهِ، وَطَلَبُهُ إلَّا بَعْدَ مُرَاجَعَاتٍ وَتَأَمُّلٍ وَاسْتِخَارَةٍ غَالِبًا فَلَا يَكُونُ لَفْظُ طَلَبِهِ: أَعْنِي زَوِّجْنِي مُسَاوَمَةً بَلْ تَحْقِيقًا فَاعْتُبِرَ إيجَابًا.
بِخِلَافِ الْبَيْعِ لَا يَكُونُ مَسْبُوقًا بِمِثْلِ ذَلِكَ فَكَانَ الْأَمْرُ فِيهِ مُسَاوَمَةً فَلَا يَتِمُّ الْعَقْدُ بِمُجَرَّدِ جَوَابِ الْآخَرِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَتِمُّ فَرْقُ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِهِ تَوْكِيلًا.
وَأَمَّا الْفَرْقُ بِأَنَّ رَدَّ النِّكَاحِ بَعْدَ إيجَابِهِ يُلْحِقُ الشَّيْنَ بِالْأَوْلِيَاءِ، بِخِلَافِ رَدِّ الْبَيْعِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى جَعْلِ الْأَمْرِ فِيهِ إيجَابًا.
ثُمَّ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَزِمَ امْتِنَاعُ رُجُوعِهِ بَعْدَ قولهِ زَوِّجْنِي بِنْتَك قَبْلَ قولهِ زَوَّجْتُك؛ لِأَنَّهُ أَيْضًا شَيْنٌ وَانْكِسَارٌ يَلْحَقُهُمْ.
وَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ مَوَاضِعَ: مِنْهَا الْبَيْعُ، وَالْإِقَالَةُ لَا يُكْتَفَى بِالْأَمْرِ فِيهِمَا عَنْ الْإِيجَابِ.
وَمِنْهَا النِّكَاحُ وَالْخُلْعُ يَقَعُ فِيهِمَا إيجَابًا.
الْخَامِسَةُ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ اشْتَرِ نَفْسَك مِنِّي بِأَلْفٍ فَقَالَ فَعَلْت عَتَقَ.
السَّادِسَةُ فِي الْهِبَةِ قَالَ هَبْ لِي هَذَا فَقَالَ وَهَبْته مِنْك تَمَّتْ الْهِبَةُ.
السَّابِعَةُ قَالَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَبْرِئْنِي عَمَّا لَك عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ فَقَالَ أَبْرَأْتُك تَمَّتْ الْبَرَاءَةُ.
الثَّامِنَةُ الْكَفَالَةُ قَالَ اُكْفُلْ بِنَفْسِ فُلَانٍ لِفُلَانٍ قَالَ كَفَلْت تَمَّتْ الْكَفَالَةُ، فَإِذَا كَانَ غَائِبًا فَقَدَّمَ وَأَجَازَ كَفَالَتَهُ جَازَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ عَدَمَ الِانْعِقَادِ بِالْمُسْتَقْبَلِ هُوَ إذَا لَمْ يَتَصَادَقَا عَلَى نِيَّةِ الْحَالِ، أَمَّا إذَا تَصَادَقَا عَلَى نِيَّةِ الْبَيْعِ فِي الْحَالِ فَيَنْعَقِدُ بِهِ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الِاسْتِقْبَالِ تَحْتَمِلُ الْحَالَ فَيَثْبُتُ بِالنِّيَّةِ.
ذَكَرَهُ فِي التُّحْفَةِ فِي صِفَةِ الِاسْتِقْبَالِ مُطْلَقًا.
وَفِي الْكَافِي قَصَرَ الْكَلَامَ عَلَى الْمُضَارِعِ فَقَالَ: الصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِعَ فِي الْأَصْلِ مَوْضُوعٌ لِلْحَالِ وَوُقُوعُهُ فِي الِاسْتِقْبَالِ نَوْعُ تَجَوُّزٍ.اهـ.
وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ قولهُ إذَا ادَّعَاهُ وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ، بِخِلَافِ الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ الْأَمْرُ، فَلَوْ ادَّعَى فِي قولهِ يَعْنِي أَنَّهُ أَرَادَ مَعْنَى اشْتَرَيْته بِكَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُصَدِّقَهُ الْقَاضِي؛ مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَقول: أَبِيعُ مِنْك هَذَا بِكَذَا أَوْ أُعْطِيكَهُ فَقَالَ اشْتَرَيْته أَوْ آخُذُهُ وَنَوَيَا الْإِيجَابَ لِلْحَالِ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ بِنِيَّةِ الْحَالِ هُوَ الْمُضَارِعُ وَتَسْمِيَتُهُ مُسْتَقْبَلًا عَلَى أَحَدِ الْقوليْنِ، وَإِلَّا فَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْحَالِ، وَأَمَّا الْأَمْرُ فَلَا يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ التَّمْثِيلُ بِهِ لِذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَقْبَلُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنْشَاءٌ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِخْبَارِ كَمَالُ انْقِطَاعٍ فَلَا يَتَجَوَّزُ بِهِ فِيهِ، فَلَا يُقَالُ بِعْنِيهِ وَالْمُرَادُ اشْتَرَيْته فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ إلَّا فِي قولهِ خُذْهُ بِكَذَا فَيَنْعَقِدُ لِثُبُوتِهِ الْإِيجَابَ اقْتِضَاءً، وَمِثْلُ الْأَمْرِ الْمُضَارِعُ الْمَقْرُونُ بِالسِّينِ نَحْوَ سَأَبِيعُك فَلَا يَصِحُّ بَيْعًا وَلَا يَتَجَوَّزُ بِهِ فِي مَعْنَى بِعْتُك فِي الْحَالِ.
فَإِنَّ ذِكْرَ السِّينِ يُنَاقِضُ إرَادَةَ الْحَالِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ الْوَاحِدِ لَا يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ فِي الْبَيْعِ مَخْصُوصٌ مِنْهُ الْأَبُ يَشْتَرِي مَالَ ابْنِهِ لِنَفْسِهِ أَوْ يَبِيعُ مَالَهُ مِنْهُ، وَالْوَصِيُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا اشْتَرَى لِلْيَتِيمِ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ لِنَفْسِهِ مِنْهُ بِشَرْطِهِ الْمَعْرُوفِ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ، وَقَيَّدَهُ فِي نَظْمِ الزندويستي بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ نَصَّبَهُ الْقَاضِي.
قولهُ: (وَقولهُ رَضِيت) هَذَا بِدِرْهَمٍ فَقَالَ بِعْتُكَهُ، وَقَالَ اشْتَرَيْته بِدِرْهَمٍ فَقَالَ رَضِيت أَوْ قَالَ بِعْتُكَهُ بِكَذَا فَقَالَ فَعَلْت أَوْ أَجَزْت أَوْ أُخِذَتْ كُلُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مِنْ قِبَلِ الْبَائِعِ أَوْ الْمُشْتَرِي يَتِمُّ بِهَا الْبَيْعُ لِإِفَادَتِهَا إثْبَاتَ الْمَعْنَى وَالرِّضَا بِهِ، وَكَذَا لَفْظَةُ خُذْهُ بِكَذَا يَنْعَقِدُ بِهِ إذَا قَبِلَ بِأَنْ قَالَ أَخَذْته وَنَحْوَهُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُسْتَقْبَلًا لَكِنَّ خُصُوصَ مَادَّتِهِ: أَعْنِي الْأَمْرَ بِالْأَخْذِ يَسْتَدْعِي سَابِقَةَ الْبَيْعِ فَكَانَ كَالْمَاضِي، إلَّا أَنَّ اسْتِدْعَاءَ الْمَاضِي سَبَقَ الْبَيْعَ بِحَسَبِ الْوَضْعِ وَاسْتِدْعَاءَ خُذْهُ سَبَقَهُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ، فَهُوَ كَمَا إذَا قَالَ بِعْتُك عَبْدِي هَذَا بِأَلْفٍ فَقَالَ فَهُوَ حُرٌّ عَتَقَ، وَيَثْبُتُ اشْتَرَيْت اقْتِضَاءً، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ هُوَ حُرٌّ بِلَا فَاءٍ لَا يُعْتَقُ.
وَإِنَّمَا صَحَّ بِهَذِهِ وَنَحْوِهَا (لِأَنَّهَا تُؤَدِّي مَعْنَى الْبَيْعِ، وَالْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ) أَلَا يَرَى إلَى مَا قَالُوا لَوْ قَالَ: وَهَبْتُك أَوْ وَهَبْت لَك هَذِهِ الدَّارَ أَوْ هَذَا الْعَبْدَ بِثَوْبِك هَذَا فَرَضِيَ فَهُوَ بَيْعٌ بِالْإِجْمَاعِ.
قَالُوا: إنَّمَا قَالَ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ احْتِرَازٌ عَنْ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَإِنَّ اللَّفْظَ فِيهِمَا يُقَامُ مَقَامَ الْمَعْنَى، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ إقَامَةَ اللَّفْظِ مَقَامَ الْمَعْنَى أَثَرٌ فِي ثُبُوتِ حُكْمِهِ بِلَا نِيَّةٍ لَيْسَ غَيْرُ، فَإِذَا فَارَقَتْ هَذِهِ الْعُقُودُ ذَلِكَ اقْتَضَى أَنْ لَا يَثْبُتَ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ بِلَا نِيَّةٍ فَلَا يَثْبُتُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ حُكْمُهُ إلَّا إذَا أَرَادَهُ بِهِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ بِعْت وَأَبِيعُ فِي تَوَقُّفِ الِانْعِقَادِ بِهِ عَلَى النِّيَّةِ وَلِذَا لَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ بِعْت هَزْلًا فَلَا مَعْنَى لِقولهِ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْمَاضِي وَلَا يَنْعَقِدُ بِالْمُسْتَقْبَلِ، ثُمَّ تَقْيِيدُهُ بِمَا إذَا لَمْ يَنْوِ بِهِ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ بِهِ فِي الْمَاضِي وَغَيْرِهِ بِالنِّيَّةِ، وَلَا يَنْعَقِدُ بِالْمَاضِي وَغَيْرِهِ بِلَا نِيَّةٍ وَمِنْ الصُّوَرِ لَفْظَةُ نَعَمْ تَقَعُ إيجَابًا فِي قول الْمُسْتَفْهِمِ أَتَبِيعُنِي عَبْدَك بِأَلْفٍ؟ فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَ أَخَذْته فَهُوَ بَيْعٌ لَازِمٌ، وَكَذَا أَبِيعُك.
وَمِنْهَا اشْتَرَيْته مِنْك بِأَلْفٍ فَقَالَ نَعَمْ أَوْ هَاتِ الثَّمَنَ انْعَقَدَ، وَكَذَا إذَا قَالَ هَذَا عَلَيْك بِأَلْفٍ فَقَالَ فَعَلْت؛ وَلَوْ قَالَ هُوَ لَك بِأَلْفٍ إنْ وَافَقَك أَوْ إنْ أَعْجَبَك، أَوْ إنْ أَرَدْت فَقَالَ وَافَقَنِي أَوْ أَعْجَبَنِي أَوْ أَرَدْت انْعَقَدَ، وَلَوْ قَالَ بِعْتُكَهُ بِكَذَا بَعْدَ وُجُودِ مُقَدِّمَاتِ الْبَيْعِ فَقَالَ اشْتَرَيْت، وَلَمْ يَقُلْ مِنْك صَحَّ، وَكَذَا عَلَى الْعَكْسِ، وَكَذَا إذَا قَالَ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الثَّمَنِ إنْ أَدَّيْت ثَمَنَهُ فَقَدْ بِعْته مِنْك فَأَدَّى فِي الْمَجْلِسِ جَازَ اسْتِحْسَانًا.
فُرُوعٌ: فِي اخْتِلَافِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ:
قَالَ بِعْتُكَهُ بِأَلْفٍ فَقَالَ اشْتَرَيْته بِأَلْفَيْنِ جَازَ، فَإِنْ قَبِلَ الْبَائِعُ الزِّيَادَةَ ثُمَّ بِأَلْفَيْنِ وَالْأَصَحُّ بِأَلْفٍ إذْ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إدْخَالِ الزِّيَادَةِ فِي مِلْكِهِ بِلَا رِضَاهُ؛ وَلَوْ قَالَ اشْتَرَيْته بِأَلْفَيْنِ فَقَالَ الْبَائِعُ بِعْتُكَهُ بِأَلْفٍ جَازَ كَأَنَّهُ قَبِلَ بِأَلْفَيْنِ وَحَطَّ عَنْهُ أَلْفًا، وَلَوْ سَاوَمَهُ بِعَشَرَةٍ فَقَالَ بِعِشْرِينَ فَقَبَضَهُ مِنْ يَدِهِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ لَزِمَ بِعَشَرَةٍ، فَلَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ فَذَهَبَ بِهِ وَالْبَاقِي بِحَالِهِ فَبِعِشْرِينَ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا.
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: يَلْزَمُ بِآخِرِهِمْ كَلَامًا مُطْلَقًا.
وَلَوْ قَالَ بِعْتُك بِأَلْفٍ بِعْتُكَهُ بِأَلْفَيْنِ فَقَالَ قَبِلْت الْأَوَّلَ بِأَلْفٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ قَدْ رَجَعَ عَنْهُ، وَلَيْسَ هَكَذَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، فَإِنْ قَالَ قَبِلْت الْبَيْعَيْنِ جَمِيعًا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ فَهُوَ كَقولهِ قَبِلْت الْآخَرَ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ: يَعْنِي يَكُونُ الْبَيْعُ بِأَلْفَيْنِ وَالْأَلْفُ زِيَادَةٌ إنْ شَاءَ قَبِلَهَا فِي الْمَجْلِسِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا، وَكَذَا بِأَلْفٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ إنَّمَا يَلْزَمُهُ الثَّانِي، وَقِيلَ يَلْزَمُهُ الثَّمَنَانِ وَالْأَوَّلُ فِي الزِّيَادَاتِ وَهُوَ أَوْجَهُ، وَإِذَا قَبِلَ الزِّيَادَةَ فِي الْمَجْلِسِ لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ.
قولهُ: (وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ) أَيْ وَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمَعْنَى يَنْعَقِدُ (بِالتَّعَاطِي فِي النَّفِيسِ وَالْخَسِيسِ) قِيلَ النَّفِيسُ نِصَابُ السَّرِقَةِ فَصَاعِدًا وَالْخَسِيسُ مَا دُونَهُ (وَقولهُ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ مِنْ قول الْكَرْخِيِّ إنَّهُ إنَّمَا يَنْعَقِدُ بِالتَّعَاطِي فِي الْخَسِيسِ فَقَطْ، وَأَرَادَ بِالْخَسِيسِ الْأَشْيَاءَ الْمُحْتَقَرَةَ كَالْبَقْلِ وَالرَّغِيفِ وَالْبِيضِ وَالْجَوْزِ اسْتِحْسَانًا لِلْعَادَةِ.
قَالَ أَبُو مُعَاذٍ: رَأَيْت سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ جَاءَ إلَى صَاحِبِ الرُّمَّانِ فَوَضَعَ عِنْدَهُ فَلْسًا، وَأَخَذَ رُمَّانَةً وَلَمْ يَتَكَلَّمْ وَمَضَى.
وَجْهُ الصَّحِيحِ أَنَّ الْمَعْنَى وَهُوَ دَلَالَةٌ عَلَى التَّرَاضِي يَشْمَلُ الْكُلَّ وَهُوَ الصَّحِيحُ فَلَا مَعْنَى لِلتَّفْصِيلِ.
وَفِي الْإِيضَاحِ: هُوَ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ فِي مَوَاضِعَ.اهـ.
وَفِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِفَخْرِ الْإِسْلَامِ فِي رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ: بِعْنِي هَذَا الْعَبْدَ لِفُلَانٍ فَاشْتَرَاهُ لَهُ، ثُمَّ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ فُلَانٌ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَ فُلَانٌ فَقَالَ أَنَا أَمَرْته، قَالَ يَأْخُذُهُ فُلَانٌ، فَإِنْ قَالَ لَمْ آمُرْهُ، وَقَدْ كَانَ اشْتَرَاهُ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ الْمُشْتَرِي لَهُ، فَإِنْ سَلَّمَهُ وَأَخَذَهُ الَّذِي اشْتَرَاهُ لَهُ كَانَ بَيْعًا لِلَّذِي أَخَذَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي وَكَأَنَّ الْعُهْدَةَ عَلَيْهِ: أَيْ لِلْآخِذِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ التَّعَاطِي فِي النَّفِيسِ.
وَفِي الْمُنْتَقَى: لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ الَّذِي عَلَيْهِ الْمَالُ لِلَّذِي لَهُ الْمَالُ أَعْطَيْتُك بِمَالِك دَنَانِيرَ فَسَاوَمَهُ بِالدَّنَانِيرِ، وَلَمْ يَقَعْ بَيْعٌ ثُمَّ فَارَقَهُ فَجَاءَهُ بِهَا فَدَفَعَهَا إلَيْهِ يُرِيدُ الَّذِي كَانَ سَاوَمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ فَارَقَهُ وَلَمْ يَسْتَأْنِفْ بَيْعًا جَازَ هَذِهِ السَّاعَةَ، وَكَذَا لَوْ سَاوَمَ رَجُلًا بِشَيْءٍ وَلَيْسَ مَعَهُ وِعَاءٌ، ثُمَّ فَارَقَهُ وَجَاءَ بِالْوِعَاءِ فَأَعْطَاهُ الثَّمَنَ وَكَالَ لَهُ جَازَ.
وَمِنْ صُوَرِهِ إذَا جَاءَ الْمُودَعُ بِأَمَةٍ غَيْرَ الْمُودَعَةِ وَقَالَ: هَذِهِ أَمَتُك وَالْمُودَعُ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ إيَّاهَا، وَحَلَفَ فَأَخَذَهَا حَلَّ الْوَطْءُ لِلْمُودِعِ وَلِلْأَمَةِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَوْ قَالَ لِلْخَيَّاطِ لَيْسَتْ هَذِهِ بِطَانَتِي فَحَلَفَ الْخَيَّاطُ أَنَّهَا هِيَ وَسِعَهُ أَخْذُهَا، وَمِنْهَا قول الدَّلَّالِ لِلْبَزَّازِ هَذَا الثَّوْبُ بِدِرْهَمٍ فَقَالَ ضَعْهُ.
وَفِي أَجْنَاسِ النَّاطِفِيِّ: لَوْ قَالَ بِكَمْ تَبِيعُ قَفِيزَ حِنْطَةٍ فَقَالَ بِدِرْهَمٍ فَقَالَ اعْزِلْهُ فَعَزَلَهُ فَهُوَ بَيْعٌ.
وَكَذَا لَوْ قَالَ لِلْقَصَّابِ مِثْلَهُ فَوَزَنَهُ وَهُوَ سَاكِتٌ فَهُوَ بَيْعٌ.
حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ الْقَصَّابُ مِنْ دَفْعِ الثَّمَنِ وَأَخْذِ اللَّحْمِ، أَوْ امْتَنَعَ الْقَصَّابُ مِنْ دَفْعِ اللَّحْمِ أَجْبَرَهُمَا الْقَاضِي.
وَكَذَا إذَا قَالَ زِنْ لِي مَا عِنْدَك مِنْ اللَّحْمِ عَلَى حِسَابِ ثَلَاثَةِ أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ فَوَزَنَ.
بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ زِنْ لِي ثَلَاثَةَ أَرْطَالٍ فَوَزَنَهَا لَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ مِنْ هَذَا الْجَنْبِ وَمِنْ هَذَا الْفَخِذِ، وَكَذَا قولهُ لِمَنْ جَاءَ بِوَقْرِ بِطِّيخٍ فِيهِ الْكِبَارُ وَالصِّغَارُ بِكَمْ عَشَرَةٍ مِنْ هَذِهِ فَقَالَ بِدِرْهَمٍ فَعَزَلَ عَشَرَةً، وَاخْتَارَهَا فَذَهَبَ بِهَا وَالْبَائِعُ يَنْظُرُ، أَوْ عَزَلَ الْبَائِعُ عَشَرَةً فَقَبِلَهَا الْمُشْتَرِي تَمَّ الْبَيْعُ.
وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّ قَبْضَ الْبَدَلَيْنِ شَرْطٌ فِي بَيْعِ التَّعَاطِي أَوْ أَحَدُهُمَا كَافٍ، وَالصَّحِيحُ الثَّانِي.
وَنَصَّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى أَنَّ بَيْعَ التَّعَاطِي يَثْبُتُ بِقَبْضِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ وَهَذَا يَنْتَظِمُ الثَّمَنُ وَالْمَبِيعُ.
وَنَصُّهُ فِي الْجَامِعِ عَلَى أَنَّ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ يَكْفِي لَا يَنْفِي الْآخَرَ.
وَمِنْهَا لَوْ رَدَّ بِخِيَارِ الْعَيْبِ، وَالْبَائِعُ مُتَيَقِّنٌ أَنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ فَأَخَذَهَا وَرَضِيَ فَهُوَ بَيْعٌ بِالتَّعَاطِي.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا) (أَوْجَبَ) أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْبَيْعَ فَالْآخَرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَ فِي الْمَجْلِسِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ، وَهَذَا خِيَارُ الْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْخِيَارُ يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَإِذَا لَمْ يَفْسُدْ لِحُكْمٍ بِدُونِ قَبُولِ الْآخَرِ فَلِلْمُوجِبِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ قَبْلَ قَبُولِهِ لِخُلُوِّهِ عَنْ إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ، وَإِنَّمَا يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ جَامِعُ الْمُتَفَرِّقَاتِ فَاعْتُبِرَتْ سَاعَاتُهُ سَاعَةً وَاحِدَةً دَفْعًا لِلْعُسْرِ وَتَحْقِيقًا لِلْيُسْرِ، وَالْكِتَابُ كَالْخِطَابِ، وَكَذَا الْإِرْسَالُ حَتَّى اُعْتُبِرَ مَجْلِسُ بُلُوغِ الْكِتَابِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ وَلَا أَنْ يَقْبَلَ الْمُشْتَرِي بِبَعْضِ الثَّمَنِ لِعَدَمِ رِضَا الْآخَرِ بِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ، إلَّا إذَا بَيَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ صَفَقَاتُ مَعْنًى.
قَالَ: (وَأَيُّهُمَا قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ الْقَبُولِ بَطَلَ الْإِيجَابُ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ) وَالرُّجُوعِ، وَلَهُ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا أَوْجَبَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْبَيْعَ فَالْآخَرُ بِالْخِيَارِ، وَهَذَا خِيَارُ الْقَبُولِ إنْ شَاءَ قَبِلَ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ) وَلِلْمُوجِبِ أَيُّهُمَا كَانَ بَائِعًا وَمُشْتَرِيًا أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ عَنْ الْإِيجَابِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقٌّ يُبْطِلُهُ الْآخَرُ بِلَا مُعَارِضٍ أَقْوَى؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لَهُ بَعْدَ الْإِيجَابِ حَقُّ التَّمَلُّكِ، وَالْمُوجِبُ هُوَ الَّذِي أَثْبَتَ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةَ فَلَهُ أَنْ يَرْفَعَهَا كَعَزْلِ الْوَكِيلِ؛ وَلَوْ سَلَّمَ فَلَا يُعَارِضُ حَقُّ التَّمَلُّكِ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ الرُّجُوعُ لَزِمَ تَعْطِيلُ حَقِّ الْمِلْكِ بِحَقِّ التَّمَلُّكِ، وَدَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ تَنْفِيهِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ لِلْأَبِ حَقَّ التَّمَلُّكِ لِمَالِ وَلَدِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَقَبْلَ تَمَلُّكِهِ بِالْفِعْلِ كَانَ لِلْوَلَدِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ، وَلَوْ صَادَفَ رَدُّ الْبَائِعِ قَبُولَ الْمُشْتَرِي بَطَلَ.
وَأَوْرَدَ فِي الْكَافِي الزَّكَاةَ الْمُعَجَّلَةَ لَيْسَ لَهُ حَقُّ اسْتِرْدَادِهَا لِثُبُوتِ حَقِّ التَّمَلُّكِ لِلْفَقِيرِ.
وَحَاصِلُ جَوَابِهِ أَنَّ الْأَصْلَ الْمُوجِبَ لِلدَّفْعِ قَائِمٌ وَهُوَ النِّصَابُ، وَإِنَّمَا الْفَائِتُ وَصْفُهُ وَهُوَ النَّمَاءُ فَبَعْدَ أَخْذِ السَّبَبِ حُكْمَهُ تَمَّ الْأَمْرُ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ يُوجَدْ الْأَصْلُ بَلْ شَطْرُهُ فَلَا يَكُونُ الْبَيْعُ مَوْجُودًا.
وَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ مَا دَامَ الْمَجْلِسُ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ حَتَّى اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ لَا يَنْعَقِدُ، وَاخْتِلَافُهُ بِاعْتِرَاضِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِعَمَلٍ آخَرَ وَنَحْوِهِ.
أَمَّا لَوْ قَامَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَذْهَبْ فَظَاهِرُ الْهِدَايَةِ وَعَلَيْهِ مَشَى جَمْعٌ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْقَبُولُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ قَاضِي خَانْ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قَامَ أَحَدُهُمَا بَطَلَ: يَعْنِي الْإِيجَابَ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ.
فَإِنْ قِيلَ: الصَّرِيحُ أَقْوَى مِنْ الدَّلَالَةِ، فَلَوْ قَالَ بَعْدَ الْقِيَامِ قَبِلْت يَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ الْإِعْرَاضُ.
قُلْنَا: الصَّرِيحُ إذَا كَانَ أَقْوَى وَيُعْمَلُ إذَا بَقِيَ الْإِيجَابُ بَعْدَ قِيَامِهِ، وَهُنَا لَمْ يَبْقَ فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَبْقَى اللَّفْظُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ، وَلَا يَجْتَمِعُ قولهُ قَبِلْت بِهِ إلَّا أَنَّ لِلْمَجْلِسِ أَثَرًا فِي جَمْعِ الْمُتَفَرِّقَاتِ وَبِالْقِيَامِ لَا يَبْقَى الْمَجْلِسُ.
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ: إذَا قَامَ الْبَائِعُ وَلَمْ يَذْهَبْ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ ثُمَّ قَبِلَ الْمُشْتَرِي صَحَّ، وَإِلَيْهِ أُشِيرُ فِي جَمْعِ التَّفَارِيقِ، وَهَذَا شَرْحٌ لِقولهِ فِيمَا يَأْتِي وَأَيُّهُمَا قَامَ إلَى آخِرِهِ، وَعَلَى اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ مَا إذَا تَبَايَعَا، وَهُمَا يَمْشِيَانِ أَوْ يَسِيرَانِ لَوْ كَانَا عَلَى دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ فَأَجَابَ الْآخَرُ لَا يَصِحُّ لِاخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَاخْتَارَ غَيْرُ وَاحِدٍ كَالطَّحَاوِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ إنْ أَجَابَ عَلَى فَوْرِ كَلَامِهِ مُتَّصِلًا جَازَ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ عَنْ النَّوَازِلِ: إذَا أَجَابَ بَعْدَمَا مَشَى خُطْوَةً أَوْ خُطْوَتَيْنِ جَازَ وَلَا شَكَّ أَنَّهُمَا إذَا كَانَا يَمْشِيَانِ مَشْيًا مُتَّصِلًا لَا يَقَعُ الْإِيجَابُ إلَّا فِي مَكَان آخَرَ بِلَا شُبْهَةٍ، وَلَوْ كَانَ الْمُخَاطَبُ فِي صَلَاةِ فَرِيضَةٍ فَفَرَغَ مِنْهَا وَأَجَابَ صَحَّ، وَكَذَا لَوْ كَانَ فِي نَافِلَةٍ فَضَمَّ إلَى رَكْعَةِ الْإِيجَابِ أُخْرَى ثُمَّ قَبِلَ جَازَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَكْمَلَهَا أَرْبَعًا.
وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ كُوزٌ فَشَرِبَ ثُمَّ أَجَابَ جَازَ، وَكَذَا لَوْ أَكَلَ لُقْمَةً لَا يَتَبَدَّلُ الْمَجْلِسُ إلَّا إذَا اشْتَغَلَ بِالْأَكْلِ، وَلَوْ نَامَا جَالِسَيْنِ لَا يَخْتَلِفُ، وَلَوْ مُضْطَجِعَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا فَهِيَ فُرْقَةٌ.
وَالسَّفِينَةُ كَالْبَيْتِ، فَلَوْ عَقَدَا وَهِيَ تَجْرِي فَأَجَابَ الْآخَرُ لَا يَنْقَطِعُ الْمَجْلِسُ بِجَرَيَانِهَا؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ إيقَافَهَا.
وَقِيلَ يَجُوزُ فِي الْمَاشِيَيْنِ أَيْضًا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا بِذَاتَيْهِمَا، أَمَّا الْمَسِيرُ بِلَا افْتِرَاقٍ فَلَا، وَهَكَذَا فِي خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ بِخِلَافِ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، وَلَوْ قَالَ بِعْتُك بِأَلْفٍ ثُمَّ قَالَ لِآخَرَ بِعْتُك بِأَلْفٍ فَقَبِلَا فَهِيَ لِلثَّانِي لَا لِلْأَوَّلِ.
وَلَوْ قَالَ بِعْتُكَهُ بِكَذَا فَلَمْ يَقْبَلْ حَتَّى قَامَ الْبَائِعُ فِي حَاجَةٍ بَطَلَ.
قولهُ: (وَالْكِتَابُ كَالْخِطَابِ، وَكَذَا الْإِرْسَالُ حَتَّى اُعْتُبِرَ مَجْلِسُ بُلُوغِ الْكِتَابِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ) فَصُورَةُ الْكِتَابِ أَنْ يَكْتُبَ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بِعْت عَبْدِي مِنْك بِكَذَا.
فَلَمَّا بَلَغَهُ الْكِتَابُ وَفَهِمَ مَا فِيهِ قَالَ قَبِلْت فِي الْمَجْلِسِ انْعَقَدَ، وَالرِّسَالَةُ أَنْ يَقول: اذْهَبْ إلَى فُلَانٍ وَقُلْ لَهُ إنَّ فُلَانًا بَاعَ عَبْدَهُ فُلَانًا مِنْك بِكَذَا فَجَاءَ فَأَخْبَرَهُ فَأَجَابَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ بِالْقَبُولِ.
وَكَذَا إذَا قَالَ بِعْت عَبْدِي فُلَانًا مِنْ فُلَانٍ بِكَذَا فَاذْهَبْ يَا فُلَانُ فَأَخْبِرْهُ فَذَهَبَ فَأَخْبَرَهُ فَقَبِلَ، وَهَذَا لِأَنَّ الرَّسُولَ نَاقِلٌ، فَلَمَّا قَبِلَ اتَّصَلَ لَفْظُهُ بِلَفْظِ الْمُوجِبِ حُكْمًا، فَلَوْ بَلَّغَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَقَبِلَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ رَسُولًا بَلْ فُضُولِيًّا، وَلَوْ كَانَ قَالَ بَلِّغْهُ يَا فُلَانُ فَبَلَّغَهُ غَيْرُهُ فَقَبِلَ جَازَ.
وَلَوْ كَانَ الْمَكْتُوبُ بِعْنِيهِ بِكَذَا فَكَتَبَ بِعْتُكَهُ لَا يَتِمُّ مَا لَمْ يَقُلْ الْأَوَّلُ قَبِلْت.
وَأَمَّا مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ: لَوْ كَتَبَ إلَيْهِ يَعْنِي بِكَذَا فَقَالَ بِعْته يَتِمُّ الْبَيْعُ، فَلَيْسَ مُرَادُ مُحَمَّدٍ هُنَا مِنْ هَذَا سِوَى الْفَرْقِ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ فِي شَرْطِ الشُّهُودِ لَا بَيَانَ اللَّفْظِ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ الْبَيْعُ.
وَقِيلَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ فَبِعْنِي مِنْ الْحَاضِرِ يَكُونُ اسْتِيَامًا عَادَةً، وَأَمَّا مِنْ الْغَائِبِ بِالْكِتَابَةِ فَيُرَادُ بِهِ أَحَدُ شَطْرَيْ الْعَقْدِ، هَذَا وَيَصِحُّ رُجُوعُ الْكَاتِبِ وَالْمُرْسِلِ عَنْ الْإِيجَابِ الَّذِي كَتَبَهُ وَأَرْسَلَهُ قَبْلَ بُلُوغِ الْآخَرِ وَقَبُولِهِ سَوَاءٌ عَلِمَ الْآخَرُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، حَتَّى لَوْ قَبِلَ الْآخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ الْبَيْعُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَكَّلَ بِالْبَيْعِ ثُمَّ عَزَلَ الْوَكِيلَ قَبْلَ الْبَيْعِ فَبَاعَ الْوَكِيلُ، فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ الْوَكِيلُ بِالْعَزْلِ قَبْلَ الْبَيْعِ فَبَيْعُهُ نَافِذٌ، وَعَلَى هَذَا الْجَوَابُ فِي الْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَالْكِتَابَةِ، فَأَمَّا الْخُلْعُ وَالْعِتْقُ عَلَى مَالٍ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ شَطْرُ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ بِالْإِجْمَاعِ إذَا كَانَا غَائِبَيْنِ عَلَى الْقَبُولِ فِي مَجْلِسِ بُلُوغِ الْخَبَرِ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ وَهُوَ أَنْ تَقول الْمَرْأَةُ خَالَعْتُ زَوْجِي وَهُوَ غَائِبٌ، أَوْ يَقول الْعَبْدُ قَبِلْت عِتْقَ سَيِّدِي الْغَائِبِ عَلَى أَلْفٍ فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ بِالْإِجْمَاعِ.
وَفِي النِّكَاحِ مَرَّ الْخِلَافُ؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَتَوَقَّفُ وَعِنْدَهُمَا لَا.
قولهُ: (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ إلَى آخِرِهِ) يَعْنِي إلَّا أَنْ يَرْضَى الْآخَرُ بِذَلِكَ بَعْدَ قَبُولِهِ فِي الْبَعْضِ، وَيَكُونُ الْمَبِيعُ مِمَّا يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِ بِالْإِجْزَاءِ كَعَبْدٍ وَاحِدٍ أَوْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَنْقَسِمُ إلَّا بِالْقِيمَةِ كَثَوْبَيْنِ وَعَبْدَيْنِ لَا يَجُوزُ وَإِنْ قَبِلَ الْآخَرُ.
وَلْنَتَكَلَّمْ عَلَى عِبَارَةِ الْكِتَابِ هُنَا فَإِنَّهَا مِمَّا وَقَعَ فِيهَا تَجَاذُبٌ فَنَقول: الظَّاهِرُ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ أَنَّ ضَمِيرَ لَهُ فِي وَقولهُ وَلَيْسَ لَهُ رَاجِعٌ إلَى أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي قولهِ: وَإِذَا أَوْجَبَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْبَيْعَ أَوْ لِلْآخَرِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ أَعَمَّ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، فَمَعْنَاهُ فِي الْبَائِعِ: أَنَّهُ إذَا أَوْجَبَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ بِأَنْ قَالَ اشْتَرَيْت هَذِهِ الْأَثْوَابَ أَوْ هَذَا الثَّوْبَ بِعَشَرَةٍ، فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَقْبَلَ فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ مِنْ أَثْوَابٍ أَوْ الثَّوْبِ لِعَدَمِ رِضَا الْآخَرِ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَلَّقُ غَرَضُهُ بِالْجُمْلَةِ بِسَبَبِ حَاجَتِهِ إلَى الْكُلِّ وَيَعْسُرُ عَلَيْهِ تَحْصِيلُ بَاقِي الْأَثْوَابِ لِعِزَّتِهَا وَبَعْضُهَا لَا يَقُومُ بِحَاجَتِهِ، فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ الْبَيْعَ فِي الْبَعْضِ انْصَرَفَ مَالُهُ وَلَمْ تَنْدَفِعْ حَاجَتُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ.
وَأَمَّا فِي الْمُشْتَرِي فَمَعْنَاهُ: إذَا أَوْجَبَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقْبَلَ فِي بَعْضِهِ إذْ قَدْ يَتَضَرَّرُ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنْ يَضُمَّ الْبَائِعُونَ الْجَيِّدَ إلَى الرَّدِيءِ لَيُرَوِّجُونَهُ.
فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ الْبَيْعَ بَقِيَ الرَّدِيءُ وَذَهَبَ مَا يُرَوِّجُهُ بِهِ فَيَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَبُولَ فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ يَكُونُ بِبَعْضِ الثَّمَنِ فَحَذَفَهُ الْمُصَنِّفُ لِلْعِلْمِ بِهِ لَكِنْ عَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ لِقولهِ وَلَا أَنْ يَقْبَلَ الْمُشْتَرِي بِبَعْضِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسْتَفَادُ مِنْ الْعِبَارَةِ الْأُولَى بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَلَزِمَ كَوْنُ الضَّمِيرِ لِلْبَائِعِ وَلَفْظُ الْمُشْتَرِي بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ لِتَصْحِيحِ كَلَامِهِ، أَيْ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَقْبَلَ فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ الَّذِي أَوْجَبَ فِيهِ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ، وَلَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَقْبَلُ الْمُشْتَرَى فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُوجِبُ هُنَا الْبَائِعَ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ عَدَمَ صِحَّةِ الْقَبُولِ فِي الْبَعْضِ لِلُزُومِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُعْرَفَ بِمَاذَا يَثْبُتُ اتِّحَادُهَا وَتَفْرِيقُهَا فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَكُونُ تَارَةً مِنْ تَعَدُّدِ الْقَابِلِ وَتَارَةً مِنْ غَيْرِهِ.
فَمَا مِنْ تَعَدُّدِ الْقَابِلِ امْتِنَاعُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إلْزَامِ الشَّرِكَةِ.
مِثَالُهُ أَنْ يَقول الْبَائِعُ لِمُشْتَرِيَيْنِ بِعْتُكُمَا هَذَا بِأَلْفٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا اشْتَرَيْت دُونَ الْآخَرِ تَعَدَّدَتْ؛ فَلَا يَلْزَمُ لِأَنَّهُ لَوْ تَمَّ فِي الصَّفِّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا خَاطَبَهُمَا بِالْكُلِّ فَكَانَ مُخَاطِبًا كُلًّا بِالنِّصْفِ، فَلَوْ لَزِمَ صَارَ شَرِيكًا لِلْبَائِعِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَيْبُ الشَّرِكَةِ بِلَا رِضَاهُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِمَالِكَيْ عَيْنٍ اشْتَرَيْت مِنْكُمَا هَذِهِ بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَإِنَّ بَيْعَهُ إنَّمَا يَتِمُّ فِي نَصِيبِهِ فَتَعَدَّدَتْ، فَلَوْ تَمَّ تَضَرَّرَ الْمُشْتَرِي الْمُوجِبُ بِالشَّرِكَةِ أَيْضًا، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُوجِبُ اثْنَيْنِ خَاطَبَا وَاحِدًا فَقَالَا بِعْنَاك أَوْ اشْتَرَيْنَا مِنْك هَذَا بِكَذَا فَأَجَابَ هُوَ فِي بَعْضِهِ لَا يَلْزَمُ، لَكِنْ لَا لِتَعَدُّدِهَا بِتَعَدُّدِ الْعَاقِدِ بَلْ لِإِجَابَتِهِ فِي الْبَعْضِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُوجِبَ فِيهَا لَوْ كَانَ وَاحِدًا وَالْبَاقِي بِحَالِهِ كَانَ مِنْ تَعَدُّدِ الصَّفْقَةِ أَيْضًا، فَعُرِفَ أَنَّ هَذَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى لَا مِنْ تَعَدُّدِ الْعَاقِدِ، وَأَمَّا مِنْ غَيْرِهِ فَبِصُورَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا أَنْ يُوجِبَ الْبَائِعُ فِي مِثْلِيَّيْنِ أَوْ وَاحِدٍ قِيَمِيٍّ أَوْ مِثْلِيٍّ فَقَبِلَ فِي الْبَعْضِ أَوْ يُوجِبُ الْمُشْتَرِي فِيمَا ذَكَرْنَاهُ بِأَنْ يَقول اشْتَرَيْت مِنْك بِكَذَا فَقَبِلَ الْبَائِعُ فِي الْبَعْضِ فَإِنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ، فَإِذَا قَبِلَ فِي بَعْضِهِمَا فَرَّقَهَا فَلَا يَصِحُّ، فَلَوْ كَانَ بَيْنَ ثَمَنِ كُلٍّ مِنْهُمَا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِلَا تَكْرَارِ لَفْظِ الْبَيْعِ أَوْ بِتَكْرَارِهِ، فَفِيمَا إذَا كَرَّرَهُ فَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ صَفْقَتَانِ، فَإِذَا قَبِلَ فِي أَحَدِهِمَا يَصِحُّ مِثْلَ أَنْ يَقول بِعْتُك هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِعْتُك هَذَا بِأَلْفٍ وَبِعْتُك هَذَا بِأَلْفٍ أَوْ اشْتَرَيْت مِنْك هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ اشْتَرَيْت هَذَا بِأَلْفٍ وَاشْتَرَيْت هَذَا بِأَلْفٍ كَذَا فِي مَوْضِعٍ، وَفِي مَوْضِعٍ أَنْ يَقول بِعْتُك هَذَيْنِ بِعْتُك هَذَا بِأَلْفٍ وَهَذَا بِأَلْفَيْنِ وَفِيمَا إذَا لَمْ يُكَرِّرْهُ مِثْلُ بِعْتُك هَذَيْنِ هَذَا بِمِائَةٍ وَهَذَا بِمِائَةٍ فَظَاهِرُ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ صِفَتَانِ وَبِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ.
وَقَالَ آخَرُونَ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ إذَا كَرَّرَ لَفْظَ الْبَيْعِ؛ فَأَمَّا إذَا لَمْ يُكَرِّرْهُ، وَقَدْ اتَّحَدَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَالْعَاقِدُ، وَلَمْ يَتَعَدَّدْ الثَّمَنُ فَالصَّفْقَةُ وَاحِدَةٌ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ فِي أَحَدِهِمَا.
وَقِيلَ الْأَوَّلُ اسْتِحْسَانٌ وَهُوَ قول أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالثَّانِي قِيَاسٌ وَهُوَ قولهُمَا.
وَالْوَجْهُ الِاكْتِفَاءُ بِمُجَرَّدِ تَفْرِيقِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ فَائِدَتَهُ لَيْسَ إلَّا قَصْدَهُ بِأَنْ يَبِيعَ مِنْهُ أَيَّهُمَا شَاءَ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ غَرَضُهُ أَنْ لَا يَبِيعَهُمَا مِنْهُ إلَّا جُمْلَةً لَمْ تَكُنْ فَائِدَةً لِتَعَيُّنِ ثَمَنِ كُلٍّ مِنْهُمَا.

متن الهداية:
وَإِذَا حَصَلَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ لَزِمَ الْبَيْعُ وَلَا خِيَارَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا مِنْ عَيْبٍ أَوْ عَدَمِ رُؤْيَةٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» وَلَنَا أَنَّ فِي الْفَسْخِ إبْطَالُ حَقِّ الْآخَرِ فَلَا يَجُوزُ.
وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى خِيَارِ الْقَبُولِ.
وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَيْهِ فَإِنَّهُمَا مُتَبَايِعَانِ حَالَةَ الْمُبَاشَرَةِ لَا بَعْدَهَا أَوْ يَحْتَمِلَهُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ، وَالتَّفَرُّقُ فِيهِ تَفَرُّقُ الْأَقْوَالِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا حَصَلَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ لَزِمَ الْبَيْعُ وَلَا خِيَارَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا مِنْ عَيْبٍ أَوْ عَدَمِ رُؤْيَةٍ) وَهُوَ قول مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ) وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (لَهُمَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا») أَوْ يَكُونُ الْبَيْعُ خِيَارًا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَيْضًا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ يَقول أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اخْتَرْ» وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا»، وَلَنَا السَّمْعُ وَالْقِيَاسُ أَمَّا السَّمْعُ فَقولهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وَهَذَا عَقْدٌ قَبْلَ التَّخْيِيرِ وقوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَبَعْدَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ تَصْدُقُ تِجَارَةٌ عَنْ تَرَاضٍ غَيْرِ مُتَوَقِّفٍ عَلَى التَّخْيِيرِ، فَقَدْ أَبَاحَ تَعَالَى أَكْلَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ التَّخْيِيرِ وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ} أَمْرٌ بِالتَّوَثُّقِ بِالشَّهَادَةِ حَتَّى لَا يَقَعَ التَّجَاحُدُ لِلْبَيْعِ، وَالْبَيْعُ يَصْدُقُ قَبْلَ الْخِيَارِ بَعْدَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، فَلَوْ ثَبَتَ الْخِيَارُ وَعَدَمُ اللُّزُومِ قَبْلَهُ كَانَ إبْطَالًا لِهَذِهِ النُّصُوصِ، وَلَا مُخَلِّصَ لَهُ مِنْ هَذَا إلَّا أَنْ يُمْنَعَ تَمَامُ الْعَقْدِ قَبْلَ الْخِيَارِ وَيَقول الْعَقْدُ الْمُلْزِمُ يُعْرَفُ شَرْعًا، وَقَدْ اعْتَبَرَ الشَّرْعُ فِي كَوْنِهِ مُلْزِمًا اخْتِيَارَ الرِّضَا بَعْدَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَكَذَا لَا تَتِمُّ التِّجَارَةُ عَنْ التَّرَاضِي إلَّا بِهِ شَرْعًا، وَإِنَّمَا أَبَاحَ الْأَكْلَ بَعْدَ الِاخْتِيَارِ لِاعْتِبَارِهِ فِي التِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ.
وَأَمَّا حَدِيثُ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ لَهُ: «إذَا ابْتَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ وَلِي الْخِيَارُ» فَقَدْ أَثْبَتَ لَهُ اشْتِرَاطَ خِيَارٍ آخَرَ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خِيَارَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالِاشْتِرَاطِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ لَا أَصْلَ الْخِيَارِ، وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا بِتَسْلِيمِ إمْكَانِ اعْتِبَارِ الْخِيَارِ فِي لُزُومِ الْعَقْدِ وَادِّعَاءِ أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ مِنْ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ كَمَا فَعَلَ الْمُصَنِّفُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْمُتَبَايِعَيْنِ الْمُتَشَاغِلَانِ بِأَمْرِ الْبَيْعِ لَا مَنْ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا وَانْقَضَى؛ لِأَنَّهُ مَجَازُهُ، وَالْمُتَشَاغَلَانِ: يَعْنِي الْمُسَاوِمَيْنِ يَصْدُقُ عِنْدَ إيجَابِ أَحَدِهِمَا قَبْلَ قَبُولِ الْآخِرِ فَيَكُونُ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ، وَهَذَا هُوَ خِيَارُ الْقَبُولِ، وَهَذَا حَمْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
لَا يُقَالُ: هَذَا أَيْضًا مَجَازٌ؛ لِأَنَّ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ الثَّابِتُ بَائِعٌ وَاحِدٌ لَا مُتَبَايِعَانِ؛ لِأَنَّا نَقول: هَذَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَصْدُقُ الْحَقِيقَةُ فِيهَا بِجُزْءٍ مِنْ مَعْنَى اللَّفْظِ كَالْمُخْبِرِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ إلَّا حَالَ التَّكَلُّمِ بِالْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ لَا يَقُومُ بِهِ دَفْعَةً لِتَصْدُقَ حَقِيقَتُهُ حَالَ قِيَامِ الْمَعْنَى بَلْ عَلَى التَّعَاقُبِ فِي أَجْزَائِهِ، فَبِالضَّرُورَةِ يَصْدُقُ مُخْبِرًا حَالَ النُّطْقِ بِبَعْضِ حُرُوفِ الْخَبَرِ، وَإِلَّا لَا يَتَحَقَّقُ لَهُ حَقِيقَةً، وَلِأَنَّا نَفْهَمُ مِنْ قول الْقَائِلِ زَيْدٌ وَعَمْرٌو هُنَاكَ يَتَبَايَعَانِ عَلَى وَجْهِ التَّبَادُرِ أَنَّهُمَا مُتَشَاغِلَانِ بِأَمْرِ الْبَيْعِ مُتَرَاوِضَانِ فِيهِ فَلْيَكُنْ هُوَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقِيِّ مُتَعَيِّنٌ فَيَكُونُ الْحَدِيثُ دَلِيلَ إثْبَاتِ خِيَارِ الْقَبُولِ لِنَفْيِ تَوَهُّمِ أَنَّهُمَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى الثَّمَنِ وَتَرَاضَيَا عَلَيْهِ، ثُمَّ أَوْجَبَ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ يَلْزَمُ الْآخَرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ أَصْلًا لِلِاتِّفَاقِ وَالتَّرَاضِي السَّابِقِ فِي إلْزَامِهِ بِكَلَامِ أَحَدِهِمَا بَعْدُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (أَوْ) هُوَ (يَحْتَمِلُهُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ) جَمْعًا بَيْنَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْآيَاتِ حَيْثُ كَانَ الْمُتَبَادِرُ إلَى الْفَهْمِ فِيهَا تَمَامُ الْبَيْعِ وَالْعَقْدِ وَالتِّجَارَةُ عَنْ تَرَاضٍ بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَعَدَمِ تَوَقُّفِ الْأَسْمَاءِ عَلَى أَمْرٍ آخَرَ.
لَا يُقَالُ: إنَّ مَا فِي خِيَارِ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَهُوَ الثَّانِي الْقَابِلُ لَا خِيَارَهُمَا؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ، بَلْ الْمُوجِبُ أَيْضًا لَهُ خِيَارُ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ وَأَنْ لَا يَرْجِعَ، وَعَلَى هَذَا فَالتَّفَرُّقُ الَّذِي هُوَ غَايَةُ قَبُولِ الْخِيَارِ تَفَرُّقُ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ أَنْ يَقول الْآخَرُ بَعْدَ الْإِيجَابِ لَا أَشْتَرِي أَوْ يَرْجِعُ الْمُوجِبُ قَبْلَ الْقَبُولِ، وَإِسْنَادُ التَّفَرُّقِ إلَى النَّاسِ مُرَادًا بِهِ تَفَرُّقَ أَقْوَالِهِمْ كَثِيرًا فِي الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «افْتَرَقَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً» وَحِينَئِذٍ؛ فَيُرَادُ بِأَحَدِهِمَا فِي قولهِ أَوْ يَقول أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اخْتَرْ الْمُوجِبُ بِقولهِ بَعْدَ إيجَابِهِ لِلْآخِرِ اخْتَرْ أَتَقْبَلُ أَوْ لَا، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ بِمُجَرَّدِ قولهِ اخْتَرْ يَلْزَمُ الْبَيْعُ بَلْ حَتَّى يَخْتَارَ الْبَيْعَ بَعْدَ قولهِ اخْتَرْ فَكَذَا فِي خِيَارِ الْقَبُولِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَعَلَى النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ وَالْكِتَابَةِ كُلٌّ مِنْهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَتِمُّ بِلَا خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الرِّضَا فَكَذَا الْبَيْعُ.
وَأَمَّا مَا يُقَالُ تَعَلَّقَ حَقُّ كُلٍّ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ بِبَدَلِ الْآخَرِ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ فَيُرَدُّ مَنْعُهُ بِأَنْ ذَلِكَ بِالشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ نَفَاهُ إلَى غَايَةِ الْخِيَارِ بِالْحَدِيثِ، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ الْكَلَامُ فِيهِ إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَعْنَى الْمُتَبَايِعَيْنِ.
وَأَمَّا مَا قِيلَ حَدِيثُ التَّفَرُّقِ رَوَاهُ مَالِكٌ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ لَعَمِلَ بِهِ فَغَايَةٌ فِي الضَّعْفِ، إذْ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ لَيْسَ حُجَّةً عَلَى مُجْتَهِدٍ غَيْرِهِ بَلْ مَالِكٌ عِنْدَهُ مَحْجُوجٌ بِهِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَالْأَعْوَاضُ الْمُشَارُ إلَيْهَا لَا يُحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِهَا فِي جَوَازِ الْبَيْعِ) لِأَنَّ بِالْإِشَارَةِ كِفَايَةٌ فِي التَّعْرِيفِ وَجَهَالَةُ الْوَصْفِ فِيهِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَالْأَعْوَاضُ الْمُشَارُ إلَيْهَا) سَوَاءٌ كَانَتْ مَبِيعَاتٍ كَالْحُبُوبِ وَالثِّيَابِ أَوْ أَثْمَانًا كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ (لَا يُحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِهَا فِي جَوَازِ الْبَيْعِ) فَإِذَا قَالَ: بِعْتُك هَذِهِ الصُّبْرَةَ مِنْ الْحِنْطَةِ أَوْ هَذِهِ الْكَوْرَجَةَ مِنْ الْأَرْزِ وَالشَّاشَاتِ وَهِيَ مَجْهُولَةُ الْعَدَدِ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ الَّتِي فِي يَدِك وَهِيَ مَرْئِيَّةٌ لَهُ فَقَبِلَ جَازَ وَلَزِمَ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ جَهَالَةُ الْوَصْفِ: يَعْنِي الْقَدْرَ وَهُوَ لَا يَضُرُّ، إذْ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ لِتَعَجُّلِهِ كَجَهَالَةِ الْقِيمَةِ لَا تَمْنَعُ الصِّحَّةَ.
قَالَ فِي الْفَتَاوَى: قَالَ لِغَيْرِهِ: لَك فِي يَدَيَّ أَرْضٌ خَرِبَةٌ لَا تُسَاوِي شَيْئًا فَبِعْهَا مِنِّي بِتِسْعَةِ دَرَاهِمَ فَبَاعَهَا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ وَقِيمَتُهَا أَكْثَرُ جَازَ الْبَيْعُ.
بِخِلَافِ السَّلَمِ لَا يُشَارُ لِلْعِوَضِ فِيهِ لِلْأَجَلِ فَلَا يَصِحُّ فِي الْمُسَلَّمِ فِيهِ اتِّفَاقًا، وَلَا فِي رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ إذَا كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِمَا يَجِيءُ.
ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ مُقَيَّدَةٌ بِغَيْرِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ وَبِالرِّبَوِيَّةِ إذَا قُوبِلَتْ بِغَيْرِ جِنْسِهَا، أَمَّا الرِّبَوِيَّةُ إذَا قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا كَالْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ فَلَا يَصِحُّ مَعَ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا لِاحْتِمَالِ الرِّبَا، وَاحْتِمَالُ الرِّبَا مَانِعٌ كَحَقِيقَةِ الرِّبَا شَرْعًا، وَالتَّقْيِيدُ بِمِقْدَارِهَا فِي قولهِ لَا يُحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِهَا احْتِرَازٌ عَنْ الصِّفَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَرَاهُ دَرَاهِمَ وَقَالَ اشْتَرَيْته بِهَذِهِ فَوَجَدَهُ زُيُوفًا أَوْ بَهْرَجَةً كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالْجِيَادِ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إلَى الدَّرَاهِمِ كَالتَّنْصِيصِ عَلَيْهَا وَهُوَ يَنْصَرِفُ إلَى الْجِيَادِ، وَلَوْ وَجَدَهَا سَتُّوقَةً أَوْ رَصَاصًا فَسَدَ الْبَيْعُ وَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ إنْ كَانَ أَتْلَفَهَا، وَلَوْ قَالَ اشْتَرَيْتهَا بِهَذِهِ الصُّرَّةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ فَوَجَدَ الْبَائِعُ مَا فِيهَا خِلَافَ نَقْدِ الْبَلَدِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنَقْدِ الْبَلَدِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الدَّرَاهِمِ فِي الْبَيْعِ يَنْصَرِفُ إلَى نَقْدِ الْبَلَدِ، وَإِنْ وَجَدَهَا نَقْدَ الْبَلَدِ جَازَ وَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ اشْتَرَيْت بِمَا فِي هَذِهِ الْخَابِيَةِ ثُمَّ رَأَى الدَّرَاهِمَ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ، وَإِنْ كَانَتْ نَقْدَ الْبَلَدِ؛ لِأَنَّ الصُّرَّةَ يُعْرَفُ مِقْدَارُ مَا فِيهَا مِنْ خَارِجِهَا، وَفِي الْخَابِيَةِ لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ مِنْ الْخَارِجِ فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ، وَيُسَمَّى هَذَا الْخِيَارُ خِيَارَ الْكَمِّيَّةِ لَا خِيَارَ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ لَا يَثْبُتُ فِي النُّقُودِ.

متن الهداية:
(وَالْأَثْمَانُ الْمُطْلَقَةُ) لَا تَصِحُّ إلَّا أَنْ تَكُونَ مَعْرُوفَةَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ وَالتَّسَلُّمَ وَاجِبٌ بِالْعَقْدِ، وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ فَيَمْتَنِعُ التَّسْلِيمُ وَالتَّسَلُّمُ، وَكُلُّ جَهَالَةٍ هَذِهِ صِفَتُهَا تَمْنَعُ الْجَوَازَ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَالْأَثْمَانُ الْمُطْلَقَةُ) أَيْ عَنْ قَيْدِ الْإِشَارَةِ (لَا تَصِحُّ حَتَّى تَكُونَ مَعْلُومَةَ الْقَدْرِ) كَخَمْسَةِ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ أَكْرَارِ حِنْطَةٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَى بِوَزْنِ هَذَا الْحَجَرِ ذَهَبًا فَإِنَّهُ لَيْسَ عِوَضًا مُشَارًا إلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ الْحَجَرُ وَلَا يُعْلَمُ قَدْرَ جُرْمِ مَا يُوزَن بِهِ مِنْ الذَّهَبِ، فَلِهَذَا إذَا اشْتَرَى بِوَزْنِ هَذَا الْحَجَرِ ذَهَبًا فَوَزَنَ بِهِ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ.
وَمِمَّا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِهِ الْبَيْعُ بِقِيمَتِهِ أَوْ بِمَا حَلَّ بِهِ، أَوْ بِمَا تُرِيدُ أَوْ تُحِبُّ أَوْ بِرَأْسِ مَالِهِ أَوْ بِمَا اشْتَرَاهُ أَوْ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَى فُلَانٌ لَا يَجُوزُ.
فَإِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِالْقَدْرِ فِي الْمَجْلِسِ فَرَضِيَهُ عَادَ جَائِزًا، وَكَذَا لَا تَجُوزُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إلَّا دِينَارًا أَوْ بِمِائَةِ دِينَارٍ إلَّا دِرْهَمًا.
وَكَذَا لَا يَجُوزُ بِمِثْلِ مَا يَبِيعُ النَّاسُ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا لَا يَتَفَاوَتُ كَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ (وَالصِّفَةُ) كَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ بُخَارِيَّةٍ أَوْ سَمَرْقَنْدِيَّةٍ.
وَكَذَا حِنْطَةٌ بُحَيْرِيَّةٌ أَوْ صَعِيدِيَّةٌ، وَهَذَا لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ الصِّفَةُ مَجْهُولَةً تَتَحَقَّقُ الْمُنَازَعَةُ فِي وَصْفِهَا.
فَالْمُشْتَرِي يُرِيدُ دَفْعَ الْأَدْوَنَ، وَالْبَائِعُ يَطْلُبُ الْأَرْفَعَ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ شَرْعِيَّةِ الْعَقْدِ وَهُوَ دَفْعُ، الْحَاجَةِ بِلَا مُنَازَعَةٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَعْوَاضَ فِي الْبَيْعِ إمَّا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَهِيَ ثَمَنٌ سَوَاءٌ قُوبِلَتْ بِغَيْرِهَا أَوْ بِجِنْسِهَا وَتَكُونُ صَرْفًا.
وَإِمَّا أَعْيَانًا لَيْسَتْ مَكِيلَةً وَلَا مَوْزُونَةً فَهِيَ مَبِيعَةٌ أَبَدًا، وَلَا يَجُوزُ فِيهَا الْبَيْعُ إلَّا عَيْنًا إلَّا فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ السَّلَمُ كَالثِّيَابِ، وَكَمَا تَثْبُتُ الثِّيَابُ مَبِيعًا فِي الذِّمَّةِ بِطَرِيقِ السَّلَمِ تَثْبُت دَيْنًا مُؤَجَّلًا فِي الذِّمَّةِ عَلَى أَنَّهَا ثَمَنٌ، وَحِينَئِذٍ يُشْتَرَطُ الْأَجَلُ لَا لِأَنَّهَا ثَمَنٌ بَلْ لِتَصِيرَ مُلْحَقَةً بِالسَّلَمِ فِي كَوْنِهَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، فَلِذَا قُلْنَا إذَا بَاعَ عَبْدًا بِثَوْبٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ جَازَ.
وَيَكُونُ بَيْعًا فِي حَقِّ الْعَبْدِ حَتَّى لَا يَشْتَرِطَ قَبْضَهُ فِي الْمَجْلِسِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَسْلَمَ الدَّرَاهِمَ فِي الثَّوْبِ، وَإِنَّمَا ظَهَرَتْ أَحْكَامُ الْمُسْلَمِ فِيهِ فِي الثَّوْبِ حَتَّى شَرَطَ فِيهِ الْأَجَلَ وَامْتَنَعَ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ لِإِلْحَاقِهِ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ أَوْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَوْ عَدَدِيٍّ مُتَقَارِبٍ كَالْبَيْضِ، فَإِنْ قُوبِلَتْ بِالنُّقُودِ فَهِيَ مَبِيعَاتٌ أَوْ بِأَمْثَالِهَا مِنْ الْمِثْلِيَّاتِ، فَمَا كَانَ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ فَهُوَ ثَمَنٌ، وَمَا كَانَ مُعَيَّنًا فَمَبِيعٌ، فَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُعَيَّنًا.
فَمَا صَحِبَهُ حَرْفُ الْبَاءِ أَوْ لَفْظُ عَلَى كَانَ ثَمَنًا وَالْآخَرُ مَبِيعًا.
وَقَالَ خُوَاهَرْ زَادَهْ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَهَادَاتِ الْجَامِعِ: الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا فَهُوَ ثَمَنٌ دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ الْبَاءِ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، فَلِذَا لَوْ قَالَ اشْتَرَيْت مِنْك كَذَا حِنْطَةً بِهَذَا الْعَبْدِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِطَرِيقِ السَّلَمِ فَيَجِبُ أَنْ يَضْرِبَ الْأَجَلَ لِلْحِنْطَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّقْدِيرَ الْمَشْرُوطَ قَدْ يَكُونُ عُرْفًا كَمَا يَكُونُ نَصًّا فِي الْفَتَاوَى لَوْ قَالَ: اشْتَرَيْت مِنْك هَذَا الثَّوْبَ أَوْ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ هَذِهِ الْبِطِّيخَةَ بِعَشَرَةٍ وَلَمْ يَقُلْ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ، إنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ يَبْتَاعُ النَّاسُ بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ وَالْفُلُوسِ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ فِي الدَّارِ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَفِي الثَّوْبِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِم وَفِي الْبِطِّيخَةِ بِعَشَرَةِ أَفْلُسٍ، وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ لَا يَبْتَاعُ النَّاسُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَبْتَاعُ النَّاسُ بِذَلِكَ النَّقْدِ انْتَهَى.
وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّهُ إذَا صَرَّحَ بِالْعَدَدِ فَتَعَيَّنَ الْمَعْدُودُ مِنْ كَوْنِهَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ فُلُوسًا يَثْبُتُ عَلَى مَا يُنَاسِبُ الْمَبِيعَ، وَوَقَعَ شَكٌّ يُنَاسِبُ الْمَبِيعَ وَجَبَ أَنْ لَا يَتِمَّ الْبَيْعُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَيَجُوزُ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَمُؤَجَّلٍ إذَا كَانَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا) لِإِطْلَاقِ قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ».
وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ مَانِعَةٌ مِنْ التَّسْلِيمِ الْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ، فَهَذَا يُطَالِبُهُ بِهِ فِي قَرِيبِ الْمُدَّةِ، وَهَذَا يُسَلِّمُهُ فِي بِعِيدِهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيَجُوزُ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَمُؤَجَّلٍ) لِإِطْلَاقِ قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَمَا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ بَيْعٌ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا لَهُ مِنْ حَدِيدٍ»، وَفِي لَفْظِ الصَّحِيحَيْنِ: «طَعَامًا بِنَسِيئَةٍ».
وَقَدْ سُمِّيَ هَذَا الْيَهُودِيُّ فِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ أَخْرَجَهُ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَهَنَ دِرْعًا عِنْدَ أَبِي الشَّحْمِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي ظُفْرٍ فِي شَعِيرٍ»، (وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّ جَهَالَتَهُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فِي التَّسَلُّمِ وَالتَّسْلِيمِ، فَهَذَا يُطَالِبُهُ فِي قَرِيبِ الْمُدَّةِ وَذَاكَ فِي بِعِيدِهَا) وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي مَوْضِعِ شَرْطِ الْأَجَلِ وَهُوَ السَّلَمُ أَوْجَبَ فِيهِ التَّعْيِينَ حَيْثُ قَال: «مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ»، وَعَلَى كُلِّ ذَلِكَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ، وَأَمَّا الْبُطْلَانُ فِيمَا إذَا قَالَ بِعْتُكَهُ بِأَلْفٍ حَالًّا وَبِأَلْفَيْنِ إلَى سَنَةٍ فَلِجَهَالَةِ الثَّمَنِ، وَمِنْ جَهَالَةِ الْأَجَلِ مَا إذَا بَاعَهُ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهِ الثَّمَنَ فِي بَلَدٍ آخَرَ، وَلَوْ قَالَ إلَى شَهْرٍ عَلَى أَنْ تُؤَدِّيَ الثَّمَنَ فِي بَلَدٍ آخَرَ جَازَ بِأَلْفٍ إلَى شَهْرٍ، وَيَبْطُلُ شَرْطُ الْإِيفَاءِ فِي بَلَدٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ مَكَانِ الْإِيفَاءِ فِيمَا لَا حَمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ لَا يَصِحُّ، فَلَوْ كَانَ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ صَحَّ، وَمِنْهُ عَلَى قول مُحَمَّدٍ مَا إذَا بَاعَهُ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ الْمَبِيعَ قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ الثَّمَنَ فَإِنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَّلَهُ بِتَضَمُّنِهِ أَجَلًا مَجْهُولًا حَتَّى لَوْ سُمِّيَ الْوَقْفُ الَّذِي يُسْلَمُ إلَيْهِ فِيهِ الْمَبِيعُ جَازَ الْبَيْعُ.
وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَإِنَّمَا عَلَّلَهُ بِالشَّرْطِ الَّذِي لَا يَقْتَضِيه الْعَقْدُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ أَطْلَقَ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ كَانَ عَلَى غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ)؛ لِأَنَّهُ الْمُتَعَارَفُ، وَفِيهِ التَّحَرِّي لِلْجَوَازِ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ (فَإِنْ كَانَتْ النُّقُودُ مُخْتَلِفَةً فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ أَحَدُهُمَا) وَهَذَا إذَا كَانَ الْكُلُّ فِي الرَّوَاجِ سَوَاءً؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ إلَّا أَنْ تَرْتَفِعَ الْجَهَالَةُ بِالْبَيَانِ أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَغْلَبَ وَأَرْوَجَ فَحِينَئِذٍ يُصْرَفُ إلَيْهِ تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي الْمَالِيَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ سَوَاءً فِيهَا كَالثُّنَائِيِّ وَالثُّلَاثِيِّ وَالنُّصْرُتِيِّ الْيَوْمَ بِسَمَرْقَنْدَ وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْعَدَالِيِّ بِفَرْغَانَةَ جَازَ الْبَيْعُ إذَا أُطْلِقَ اسْمُ الدِّرْهَمِ، كَذَا قَالُوا، وَيَنْصَرِفُ إلَى مَا قَدَّرَ بِهِ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَازَعَةَ وَلَا اخْتِلَافَ فِي الْمَالِيَّةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ أَطْلَقَ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ) أَيْ أَطْلَقَهُ عَنْ ذِكْرِ الصِّفَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْعَدَدِ بِأَنْ قَالَ عَشَرَةُ دَرَاهِمِ مِثْلًا (انْصَرَفَ إلَى غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ فَيَنْصَرِفُ) الْمُطْلَقُ (إلَيْهِ) فَإِنْ كَانَ إطْلَاقُ اسْمِ الدَّرَاهِمِ فِي الْعُرْفِ يَخْتَصُّ بِهَا مَعَ وُجُودِ دَرَاهِمَ غَيْرِهَا فَهُوَ تَخْصِيصُ الدَّرَاهِمِ بِالْعُرْفِ الْقوليِّ، وَهُوَ مِنْ إفْرَادِ تَرْكِ الْحَقِيقَةِ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ، وَإِنْ كَانَ التَّعَامُلُ بِهَا فِي الْغَالِبِ كَانَ مَنْ تَرَكَهَا بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا وَاجِبٌ تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ وَعَدَمِ إهْدَارِ كَلَامِ الْعَاقِلِ (فَإِنْ كَانَتْ النُّقُودُ مُخْتَلِفَةَ) الْمَالِيَّةِ كَالذَّهَبِ الْأَشْرَفِيِّ وَالنَّاصِرِيِّ بِمِصْرَ لَكِنَّهَا فِي الرَّوَاجِ سَوَاءٌ (فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ) لِعَدَمِ إمْكَانِ الصَّرْفِ إلَى أَحَدِهَا بِعَيْنِهِ دُونَ الْآخَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّحَكُّمِ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي الرَّوَاجِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الصَّرْفُ إلَى أَحَدِهَا وَالْحَالَةُ أَنَّهَا مُتَفَاوِتَةُ الْمَالِيَّةِ جَاءَتْ الْجَهَالَةُ الْمُفْضِيَةُ إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُرِيدُ دَفْعَ الْأَنْقَصِ مَالِيَّةً، وَالْبَائِعُ يُرِيدُ دَفْعَ الْأَعْلَى فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ، إلَّا أَنْ تَرْتَفِعَ الْجَهَالَةُ بِبَيَانِ أَحَدِهِمَا فِي الْمَجْلِسِ وَيَرْضَى الْآخَرُ لِارْتِفَاعِ الْمُفْسِدِ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ، وَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ الدَّائِنُ لِمَدْيُونِهِ بِعْنِي هَذَا الثَّوْبَ بِبَعْضِ الْعَشَرَةِ الَّتِي لِي عَلَيْك وَبِعْنِي هَذَا الْآخَرَ بِبَاقِي الْعَشَرَةِ فَقَالَ نَعَمْ كَانَ صَحِيحًا لِعَدَمِ إفْضَاءِ جَهَالَةِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ إلَى الْمُنَازَعَةِ بِضَمِّ الْمَبِيعِ الثَّانِي إلَيْهِ إذْ بِهِ يَصِيرُ ثَمَنُهُمَا عَشَرَةً، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى قَبُولِ الدَّائِنِ بَعْدَ قول الْمَدْيُونِ نَعَمْ وَنَحْوُهُ.
وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةَ الْمَالِيَّةِ وَالرَّوَاجِ مَعًا فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَيُصْرَفُ إلَى الْأَرْوَجِ لِلْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ.
وَكَذَا إذَا كَانَتْ مُتَسَاوِيَةَ الْمَالِيَّةِ وَالرَّوَاجِ يَصِحُّ الْبَيْعُ وَيُؤَدِّي مِنْ أَيُّهَا شَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ لِأَحَدِهَا فَلَوْ طَلَبَ الْبَائِعُ أَحَدَهَا بِعَيْنِهِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ الصِّنْفِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْ قَبْضِ مَا أَعْطَاهُ الْمُشْتَرِي مَعَ أَنَّهُ لَا فَضْلَ لِلْآخَرِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا التَّعَنُّتُ.
وَبِهَذَا قُلْنَا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لَا تَتَعَيَّنُ، حَتَّى لَوْ أَرَاهُ دِرْهَمًا اشْتَرَى بِهِ فَبَاعَهُ ثُمَّ حَبَسَهُ وَأَعْطَاهُ دِرْهَمًا آخَرَ جَازَ: يَعْنِي إذَا كَانَا مُتَّحِدَيْ الْمَالِيَّةِ وَالثُّنَائِيُّ وَالثُّلَاثِيُّ اسْمَا دَرَاهِمَ كَانَتْ بِبِلَادِهِمْ مُخْتَلِفَةَ الْمَالِيَّةِ، وَكَذَا الرُّكْنِيُّ وَالْخَلِيفَتِيُّ فِي الذَّهَبِ كَانَ الْخَلِيفَتِيُّ أَفْضَلَ مَالِيَّةً عِنْدَهُمْ وَالْعِدَالِيُّ اسْمٌ لِدَرَاهِمَ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ الطَّعَامِ وَالْحُبُوبِ مُكَايَلَةً وَمُجَازَفَةً) وَهَذَا إذَا بَاعَهُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ» بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةً لِمَا فِيهِ مِنْ احْتِمَالِ الرِّبَا وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ غَيْرُ مَانِعَةٍ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ فَشَابَهَ جَهَالَةَ الْقِيمَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ الطَّعَامِ) وَهِيَ الْحِنْطَةُ وَدَقِيقُهَا خَاصَّةً فِي الْعُرْفِ الْمَاضِي كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْفِطْرَةِ: «كُنَّا نُخْرِجُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ».
فَقولهُ (وَالْحُبُوبُ) عَطَفَ الْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ أَوْ يُقَدَّرُ وَكَذَا بَاقِي: أَيْ وَبَاقِي الْحُبُوبِ فَلَا يَتَنَاوَلُ الطَّعَامَ (مُكَايَلَةً) أَيْ بِشَرْطِ عَدَدٍ مِنْ الْكَيْلِ.
وَإِلَّا فَفِي اللُّغَةِ الْمُكَايَلَةُ أَنْ تَكِيلَ لَهُ وَيَكِيلَ لَك (وَمُجَازَفَةً) أَيْ بِلَا كَيْلٍ وَلَا وَزْنٍ بَلْ بِإِرَاءَةِ الصُّبْرَةِ وَالْجَزْفُ فِي الْأَصْلِ: الْأَخْذُ بِكَثْرَةٍ مِنْ قولهِمْ جَزَفَ لَهُ فِي الْكَيْلِ إذَا أَكْثَرَ، وَمَرْجِعُهُ إلَى الْمُسَاهَلَةِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا) يَعْنِي الْبَيْعَ مُجَازَفَةً مُقَيَّدٌ بِغَيْرِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ إذَا بِيعَتْ بِجِنْسِهَا، فَأَمَّا الْأَمْوَالُ الرِّبَوِيَّةُ إذَا بِيعَتْ بِجِنْسِهَا فَلَا يَجُوزُ مُجَازَفَةً لِاحْتِمَالِ الرِّبَا، وَهُوَ مَانِعٌ كَحَقِيقَةِ الرِّبَا.
وَهَذَا أَيْضًا مُقَيَّدٌ بِمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ مِنْهَا، وَأَمَّا مَا لَا يَدْخُلُ كَحَفْنَةٍ بِحَفْنَتَيْنِ فَيَجُوزُ وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَرِهَ التَّمْرَةَ بِالتَّمْرَتَيْنِ فَقَالَ: مَا حُرِّمَ فِي الْكَثِيرِ حُرِّمَ فِي الْقَلِيلِ.
وَالْقَيْدُ مُقَيَّدٌ أَيْضًا بِمَا إذَا بَاعَ غَيْرَ الْحُبُوبِ مِنْ الرِّبَوِيَّاتِ بِجِنْسِهَا كِفَّةً بِكِفَّةٍ فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْمُجَازَفَةِ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ قَدْرَهُ.
وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ بَاعَ الْفِضَّةَ كِفَّةَ مِيزَانٍ بِكِفَّةِ مِيزَانٍ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ إنَّمَا هُوَ احْتِمَالُ الرِّبَا وَهُوَ بِاحْتِمَالِ التَّفَاضُلِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ فِيمَا إذَا وَضَعَ صُبْرَةَ فِضَّةٍ فِي كِفَّةِ مِيزَانٍ، وَوَضَعَ مُقَابِلَتَهَا فِضَّةً حَتَّى وَزَنَتْهَا فَيَجُوزُ.
وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ وَهُوَ مَا رَوَى أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ إلَّا الْبُخَارِيَّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَال: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَتْ يَدًا بِيَدٍ» (وَلِأَنَّ) هَذِهِ (الْجَهَالَةَ غَيْرُ مَانِعَةٍ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ) لِتَعَجُّلِ التَّسْلِيمِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَلَا يُمْنَعُ (فَشَابَهَ جَهَالَةَ الْقِيمَةِ) لِلْمَبِيعِ بَعْدَ رُؤْيَتِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ اشْتَرَى مِنْ إنْسَانٍ مَا يُسَاوِي مِائَةً بِدِرْهَمٍ، وَالْبَائِعُ لَا يَعْلَمُ قِيمَةَ مَا بَاعَ لَزِمَ الْبَيْعُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَيَجُوزُ بِإِنَاءٍ بِعَيْنِهِ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ وَبِوَزْنِ حَجَرٍ بِعَيْنِهِ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ)؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِمَا أَنَّهُ يَتَعَجَّلُ فِيهِ التَّسْلِيمَ فَيُنْدَرُ هَلَاكُهُ قَبْلَهُ بِخِلَافِ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ فِيهِ مُتَأَخِّرٌ وَالْهَلَاكَ لَيْسَ بِنَادِرٍ قَبْلَهُ فَتَتَحَقَّقُ الْمُنَازَعَةُ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ أَيْضًا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَظْهَرُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيَجُوزُ بِإِنَاءٍ بِعَيْنِهِ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ وَبِوَزْنِ حَجَرٍ بِعَيْنِهِ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ) قَدْ قَيَّدَ الْإِنَاءَ بِكَوْنِهِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانَ كَأَنْ يَكُونَ مِنْ خَشَبٍ أَوْ حَدِيدٍ، أَمَّا إذَا كَانَ يَحْتَمِلُ كَالزِّنْبِيلِ وَالْجَوَالِقِ فَلَا يَجُوزُ، وَعَلَى هَذَا بَيْعُ مِلْءِ قِرْبَةٍ بِعَيْنِهَا أَوْ رِوَايَةً مِنْ النِّيلِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَيْسَ عِنْدَهُ وَلَا يُعْرَفُ قَدْرُ الْقِرْبَةِ لَكِنْ أُطْلِقَ فِي الْمُجَرَّدِ جَوَازُهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْقِرَبِ الْمُتَعَارَفَةِ فِي الْبَلَدِ مَعَ غَالِبِ السَّقَّائِينَ، فَلَوْ مَلَأَ لَهُ بِأَصْغَرِ مِنْهَا لَا يُقْبَلُ، وَكَذَا رِوَايَةٌ مِنْهُ يُوفِيهِ فِي مَنْزِلِهِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا مَلَأَهَا ثُمَّ تَرَاضَيَا جَازَ كَمَا قَالُوا لَوْ بَاعَ الْحَطَبَ وَنَحْوَهُ أَحْمَالًا لَا يَجُوزُ، وَلَوْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ ثُمَّ بَاعَهُ الْحِمْلَ جَازَ لِتَعَيُّنِ قَدْرِ الْمَبِيعِ فِي الثَّانِي.
وَفِي الْخُلَاصَةِ اشْتَرَى كَذَا كَذَا قِرْبَةً مِنْ مَاءِ الْفُرَاتِ جَازَ اسْتِحْسَانًا إذَا كَانَتْ الْقِرْبَةُ مُعَيَّنَةً.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا يَجُوزُ فِي الْقِرَبِ مُطْلَقًا.
وَفِي الْمُحِيطِ: بَيْعُ الْمَاءِ فِي الْحِيَاضِ وَالْآبَارِ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا جَعَلَهُ فِي وِعَاءٍ.
وَوَجَّهَ فِي الْمَبْسُوطِ مَسْأَلَةَ الْكِتَابِ بِأَنَّ فِي الْمُعَيَّنِ مُجَازَفَةً يَجُوزُ فَبِمِكْيَالٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ أَوْلَى، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ فِي الْمُجَازَفَةِ الْإِشَارَةُ إلَى عَيْنِ الْمَبِيعِ ثَابِتَةٌ تُفِيدُ الْإِحَاطَةَ بِمِقْدَارِ جَرْمِهِ وَأَقْطَارِهِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّمْيِيزِ لَا يَحْصُلُ لَهَا فِي كَيْلٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ قَبْلَ أَنْ يُصَبَّ فَالْأَوْلَوِيَّةُ مُنْتَفِيَةٌ بِلَا شَكٍّ.
وَالْوَجْهُ يَقْتَضِي أَنْ يَثْبُتَ الْخِيَارُ إذَا كَانَ بِهِ أَوْ وَزَنَ لِلْمُشْتَرِي كَمَا فِي الشِّرَاءِ بِوَزْنِ هَذَا الْحَجَرِ ذَهَبًا نَصَّ فِي جَمْعِ النَّوَازِلِ عَلَى أَنَّ فِيهِ الْخِيَارَ إذَا عَلِمَ بِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ بِالْوَزْنِ.
وَفِي جَمِيعِ التَّفَارِيقِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ جَوَازُ الشِّرَاءِ بِوَزْنِ هَذَا الْحَجَرِ، وَفِيهِ الْخِيَارُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا مَحْمَلَ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ أَيْضًا كَمَا لَا يَجُوزُ فِي السَّلَمِ، فَقولهُ لَا يَجُوزُ أَيْ يَلْزَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ) أَيْ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ (وَأَظْهَرُ) أَيْ مِنْ حَيْثُ الْوَجْهُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْجَهَالَةَ وَإِنْ كَانَتْ ثَابِتَةً لَكِنَّهَا لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَهِيَ الْمَانِعَةُ، وَذَلِكَ لَأَنْ يَتَعَجَّلَ فَيَنْدُرَ هَلَاكُهُ، بِخِلَافِ السَّلَمِ لَا يَتَعَجَّلُ فَقَدْ يَهْلِكُ ذَلِكَ الْكَيْلُ وَالْحَجَرُ فَيَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ لَا يَنْفِي ثُبُوتَ الْخِيَارِ، وَأَقْرَبُ الْأُمُورِ إلَى مَا نَحْنُ فِيهِ قول أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ: وَهِيَ مَا إذَا بَاعَ صُبْرَةً كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي الْمَجْلِسِ حَتَّى عُرِفَ الْمِقْدَارُ صَحَّ، وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي كَمَا إذَا رَآهُ، وَلَمْ يَكُنْ رَآهُ وَقْتَ الْبَيْعِ مَعَ أَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ رَأَى الصُّبْرَةَ قَبْلَ الْكَيْلِ وَوَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا، لَكِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ أَتَمُّ، وَصَارَ كَمَا إذَا رَأَى الدُّهْنَ فِي قَارُورَةِ زُجَاجٍ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ الْخِيَارُ بَعْدَ صَبِّهِ.
وَهَذَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ اشْتِرَاطُ كَوْنِ مَا يُوزَنُ بِهِ وَلَا يَحْتَمِلُ النُّقْصَانَ حَتَّى لَا يَجُوزَ بِوَزْنِ هَذِهِ الْبِطِّيخَةِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّهَا تَنْقُصُ بِالْجَفَافِ، وَعَوَّلَ بَعْضُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنَّ الْبَيْعَ بِوَزْنِ حَجَرٍ بِعَيْنِهِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِشَرْطِ تَعْجِيلِ السَّلَمِ، وَلَا جَفَافَ يُوجِبُ نَقْصًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَمَا قَدْ يَعْرِضُ مِنْ تَأَخُّرِهِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ مَمْنُوعٌ، بَلْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ كَمَا لَا يَجُوزُ الْإِسْلَامُ فِي وَزْنِ ذَلِكَ الْحَجَرِ لِخَشْيَةِ الْهَلَاكِ فَيَتَعَذَّرُ التَّسْلِيمُ، وَتَقَعُ الْمُنَازَعَةُ الْمَانِعَةُ مِنْهُ، وَالْفَرْضُ أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ السَّلَمِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَأَخُّرَ التَّسْلِيمِ فِيهِ إلَى مَجْلِسٍ آخَرَ يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ هَلَاكَهُ إنْ نَدَرَ فَالِاخْتِلَافُ فِي أَنَّهُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ وَالتُّهْمَةُ فِيهِ لَيْسَ بِنَادِرٍ، وَكُلُّ الْعِبَارَاتِ تُفِيدُ صِحَّةَ الْبَيْعِ فِي ذَلِكَ بِالتَّعْجِيلِ كَمَا فِي عِبَارَةِ الْمَبْسُوطِ حَيْثُ قَالَ: وَلَوْ اشْتَرَى بِهَذَا الْإِنَاءِ يَدًا بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ، ثُمَّ إنَّ فِي الْمُعَيَّنِ الْبَيْعُ مُجَازَفَةً يَجُوزُ فَبِمِكْيَالٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ أَوْلَى، وَهَذَا لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عَقِيبَ الْبَيْعِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ وَتَقَدَّمَ النَّظَرُ فِي الْأَوْلَوِيَّةِ.
وَهَذَا وَأَوْرَدَ عَلَى التَّعْلِيلِ بِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ مَا إذَا بَاعَ عَبْدًا مِنْ أَرْبَعَةٍ يَأْخُذُ الْمُشْتَرِي أَيَّهُمْ شَاءَ أَوْ بَاعَ بِأَيِّ ثَمَنٍ شَاءَ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ مَعَ أَنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُبْطِلَ فِي الْمُورَدِ مَعْنًى آخَرُ وَهُوَ عَدَمُ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ لَا الْجَهَالَةُ، وَكَانَ مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي عَبْدٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ، لَكِنْ جَازَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ كَمَا سَيَأْتِي، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقِيَاسَ مَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْقِرْبَةِ مِنْ مَاءِ النَّهْرِ، وَأَنَّهُ كَبَيْعِ الطَّيْرِ قَبْلَ أَنْ يَصْطَادَهُ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ كُرًّا مِنْ حِنْطَةٍ، وَلَيْسَ فِي مِلْكِهِ حِنْطَةٌ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ سَلَمًا، وَأَمَّا الِاسْتِحْسَانُ الثَّابِتُ بِالتَّعَامُلِ فَمُقْتَضَاهُ الْجَوَازُ بَعْدَ أَنْ يُسَمِّيَ نَوْعَ الْقِرْبَةِ فِي دِيَارِنَا بِمِصْرَ إذَا لَمْ تَكُنْ مُعَيَّنَةً مِثْلَ قِرْبَةٍ كَتَافِيَّةٍ أَوْ سِقَاوِيَّةٍ أَوْ رَوَاسِيَّةٍ كَبِيرَةٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ التَّفَاوُتُ يَسِيرٌ أَهْدَرَ فِي الْمَاءِ.
وَنَظِيرُ مَا نَحْنُ فِيهِ مَا إذَا بَاعَ حِنْطَةً مَجْمُوعَةً فِي بَيْتٍ أَوْ مَطْمُورَةٍ فِي الْأَرْضِ وَالْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمُ مَبْلَغَهَا وَلَا مُنْتَهَى حَفْرِ الْحَفِيرَةِ أَنَّ لَهُ الْخِيَارُ إذَا عَلِمَ، إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِجَمِيعٍ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ مُنْتَهَى الْمَطْمُورَةِ وَلَا يَعْلَمُ مَبْلَغَ الْحِنْطَةِ جَازَ وَلَا خِيَارَ لَهُ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ تَحْتَهَا دُكَّانٌ: أَيْ صِفَةٌ وَنَحْوُهَا، كَذَا فِي فَتَاوَى الْقَاضِي وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ بَاعَهُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ قَدْرَ مَا يَمْلَأُ هَذَا الطَّشْتَ جَازَ، وَلَوْ بَاعَهُ قَدْرَ مَا يَمْلَأُ هَذَا الْبَيْتَ لَا يَجُوزُ.
وَفِي الْفَتَاوَى: بِعْت مِنْك مَا لِي فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ الرَّقِيقِ وَالدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ وَالْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمُ مَا فِيهَا فَهُوَ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ؛ وَلَوْ قَالَ مَا فِي هَذَا الْبَيْتِ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ يَسِيرَةٌ، وَإِذَا جَازَ فِي الْبَيْتِ جَازَ فِي الصُّنْدُوقِ وَالْجَوَالِقِ، وَلَوْ قَالَ بِعْت مِنْك نَصِيبِي مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فَشَرْطُ الْجَوَازِ عِلْمُ الْمُشْتَرِي بِنَصِيبِهِ دُونَ عِلْمِ الْبَائِعِ وَتَصْدِيقُ الْبَائِعِ فِيمَا يَقول، وَلَوْ اشْتَرَى مَوْزُونًا بِإِنَاءٍ عَلَى أَنْ يُفْرِغَهُ وَيَزِنَ الْإِنَاءَ فَيَحُطُّ قَدْرَ وَزْنِهِ مِنْ الثَّمَنِ جَازَ، وَكَمَا تُمْنَعُ الْجَهَالَةُ السَّابِقَةُ كَذَلِكَ تُمْنَعُ اللَّاحِقَةُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَلِذَا اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا بَاعَ الْجَمْدَ الْكَائِنَ فِي الْمُجَمَّدَةِ، قِيلَ لَا يَجُوزُ حَتَّى يُسَلِّمَ أَوَّلًا، ثُمَّ يَبِيعُ، وَالْأَصَحُّ جَوَازُهُ مُطْلَقًا وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ إذَا سَلَّمَ قَبْلَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَوْ سَلَّمَ بَعْدَهَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا تَذُوبُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَهُوَ وَجْهُ مَنْ مَنَعَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، غَيْرَ أَنَّ النَّقْصَ قَلِيلٌ قَبْلَ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ فَلِهَذَا أُهْدِرَ وَجَازَ، وَقِيلَ إنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ وَغَلَاءِ الْجَمْدِ وَرُخْصِهِ فَيَنْظُرُ إلَى مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ كَثِيرًا بِحَسَبِ الْأَوْقَاتِ فَيَجُوزُ إذَا سَلَّمَهُ قَبْلُ، وَسَيَأْتِي مِنْ هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

متن الهداية:
(قَالَ وَمَنْ بَاعَ صُبْرَةَ طَعَامٍ كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ جَازَ الْبَيْعُ فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ جُمْلَةَ قُفْزَانِهَا وَقَالَا يَجُوزُ فِي الْوَجْهَيْنِ) لَهُ أَنَّهُ تَعَذَّرَ الصَّرْفُ إلَى الْكُلِّ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ فَيُصْرَفُ إلَى الْأَقَلِّ وَهُوَ مَعْلُومٌ، وَإِلَّا أَنْ تَزُولَ الْجَهَالَةُ بِتَسْمِيَةِ جَمِيعِ الْقُفْزَانِ أَوْ بِالْكَيْلِ فِي الْمَجْلِسِ، وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ كُلُّ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ بِالْإِجْمَاعِ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْجَهَالَةَ بِيَدِهِمَا إزَالَتُهَا وَمِثْلُهَا غَيْرُ مَانِعٍ، وَكَمَا إذَا بَاعَ عَبْدًا مِنْ عَبْدَيْنِ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ.
ثُمَّ إذَا جَازَ فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا كِيلَ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ سَمَّى جُمْلَةَ قُفْزَانِهَا؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ الْآنَ فَلَهُ الْخِيَارُ، كَمَا إذَا رَآهُ وَلَمْ يَكُنْ رَآهُ وَقْتَ الْبَيْعِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ بَاعَ صُبْرَةَ طَعَامٍ كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ جَازَ الْبَيْعُ فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ) يَعْنِي أَنَّ مُوجِبَ هَذَا اللَّفْظِ وَالْإِشَارَةُ إيجَابُ الْبَيْعِ فِي وَاحِدٍ عِنْدَهُ، وَيَتَوَقَّفُ فِي الْبَاقِي إلَى تَسْمِيَةِ الْكُلِّ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ كَيْلِهِ فِيهِ فَيَثْبُتُ حِينَئِذٍ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي، فَإِنْ رَضِيَ هَلْ يَلْزَمُ الْبَيْعُ عَلَى الْبَائِعِ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ أَوْ يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِهِ أَيْضًا، رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا، وَرَوَى مُحَمَّدٌ خِلَافَهُ حَتَّى لَوْ فَسَخَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ بَعْدَ الْكَيْلِ وَرَضِيَ الْمُشْتَرِي بِأَخْذِ الْكُلِّ لَا يَعْمَلُ فَسْخُهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ وَهُوَ قول الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ إذَا جَازَ فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ فَلِلْمُشْتَرِي فِيهِ الْخِيَارُ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ دُونَ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ التَّفْرِيقَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ بِسَبَبِ عَدَمِ تَسْمِيَتِهِ جُمْلَةَ الْقُفْزَانِ (وَلَهُ أَنَّهُ تَعَذَّرَ صَرْفُ الْبَيْعِ إلَى الْكُلِّ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ) وَلَا جَهَالَةَ فِي الْقَفِيزِ فَلَزِمَ فِيهِ، وَإِذَا زَالَتْ بِالتَّسْمِيَةِ أَوْ الْكَيْلِ فِي الْمَجْلِسِ يَثْبُتُ الْخِيَارُ كَمَا إذَا ارْتَفَعَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ بِالرُّؤْيَةِ إذْ الْمُؤْثِرُ فِي الْأَصْلِ ارْتِفَاعُ الْجَهَالَةِ بَعْدَ لَفْظِ الْعَقْدِ وَكَوْنُهُ بِالرُّؤْيَةِ مُلْغًى، بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ ذَلِكَ بَعْدَ الْمَجْلِسِ لِتَقَرُّرِ الْمُفْسِدِ وَمَا فِي الْمُحِيطِ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّ عِنْدَهُ يَصِحُّ فِي الْكُلِّ، وَإِنْ عَلِمَ بَعْدَ الْمَجْلِسِ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْمَجْلِسِ كَالثَّابِتِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَهُ، وَلَا يَلْزَمُ إسْقَاطُ خِيَارِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ الْمَجْلِسِ، وَكَذَا زَوَالُ جَهَالَةِ الْأَجَلِ الْمَجْهُولِ بَعْدَهُ حَيْثُ يَجُوزُ الْعَقْدُ بِزَوَالِ الْمُفْسِدِ بَعْدَ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ فِيهِمَا لَمْ يَتَمَكَّنْ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ فَلَا يَتَقَيَّدُ رَفْعُ الْمُفْسِدِ بِالْمَجْلِسِ، وَهَذَا لِأَنَّ أَثَرَ الْفَسَادِ فِيهِمَا لَا يَظْهَرُ فِي الْحَالِ بَلْ يَظْهَرُ عِنْدَ دُخُولِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَامْتِدَادِ الْأَجَلِ.
وَأَمَّا مَا أُورِدَ مِنْ أَنَّ الْجَهَالَةَ وَإِنْ كَانَتْ ثَابِتَةً لَكِنَّهَا لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّ كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ لَا يَتَفَاوَتُ الْحَالُ بَيْنَ كَوْنِ الْقُفْزَانِ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا، فَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُفْسِدَ هُنَا جَهَالَةُ الثَّمَنِ كَمِّيَّةً خَاصَّةً وَقَدْرًا لِعَدَمِ الْإِشَارَةِ وَلَا مُعَرَّفَ شَرْعًا لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ بِمَنْعِ كَوْنِهَا غَيْرَ مُفْضِيَةٍ إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ قَدْ يَطْلُبُ الْمُشْتَرِيَ بِتَسْلِيمِهِ الثَّمَنَ، وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ لِعَدَمِ مَعْرِفَةِ قَدْرِهِ فَيَتَنَازَعَانِ فَتَهَافُتٌ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُطَالِبَهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَكِيلَهُ لِيَعْرِفَ الْقَدْرَ الَّذِي يُطَالِبُ بِهِ، إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُطَالِبَهُ إلَّا بِكَمِّيَّةٍ خَاصَّةٍ مُشَارٍ إلَيْهَا أَوْ مَضْبُوطَةِ الْوَزْنِ، وَحِينَئِذٍ يَعْلَمُهَا الْمُشْتَرِي فَيَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَلَوْ امْتَنَعَ بَعْدَ هَذَا التَّقْدِيرِ كَانَ مَطْلًا لِلْمُنَازَعَةِ الْمُفْسِدَةِ (وَلَهُمَا أَنَّ هَذِهِ جَهَالَةٌ بِيَدِهِمَا إزَالَتُهَا) بِأَنْ يَكِيلَا فِي الْمَجْلِسِ، وَالْجَهَالَةُ الَّتِي هِيَ كَذَلِكَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ كَبَيْعِ عَبْدٍ مِنْ عَبْدَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ يَأْخُذُ أَيَّهُمَا شَاءَ.
وَقَدْ أُورِدَ عَلَيْهِ نَقْضٌ إجْمَالِيٌّ لَوْ صَحَّ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ الْجَهَالَةَ الَّتِي بِيَدِهِمَا إزَالَتُهَا غَيْرُ مَانِعَةٍ مِنْ الصِّحَّةِ لَزِمَ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ بِالرَّقْمِ عِنْدَهُمَا، وَأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ عَبْدٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ، عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُخَيَّرٌ فِي تَعْيِينِهِ، وَأَنْ يَجُوزَ الْبَيْعُ بِأَيِّ ثَمَنٍ شَاءَ، لَكِنَّ الْبَيْعَ فِي الْكُلِّ بَاطِلٌ.
أُجِيبُ بِأَنَّ الْبَيْعَ بِالرَّقْمِ تَمَكَّنَتْ الْجَهَالَةُ بِهِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَهُوَ جَهَالَةُ الثَّمَنِ بِسَبَبِ الرَّقْمِ، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْقِمَارِ لِلْخَطَرِ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُ سَيَظْهَرُ كَذَا وَكَذَا، وَجَوَازُهُ إذَا عُلِمَ فِي الْمَجْلِسِ بِعَقْدٍ آخَرَ هُوَ التَّعَاطِي كَمَا قَالَهُ الْحَلْوَانِيُّ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يَعْلَمُ بِكَيْلِ الْبَيْعِ يَعْلَمُ بِكَيْلِ الْمُشْتَرِي، وَمِثْلُ هَذَا الْقول الْبَيْعُ بِأَيِّ ثَمَنٍ شَاءَ، وَمِثْلُهُ فِي أَحَدِ الْعَبِيدِ الْأَرْبَعَةِ فِي جَانِبِ الْمَبِيعِ، فَإِنَّ الْبَيْعَ لَا يَنْعَقِدُ فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ فَكَانَ بَيْعًا بِلَا مَبِيعٍ، وَكَانَ مُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا يَجُوزَ فِي عَبْدٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ إلَّا أَنَّهُ يَثْبُتُ بِدَلَالَةِ نَصِّ شَرْطِ الْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَا يَخْفَى أَنَّ كُلَّ أَجْوِبَةِ هَذِهِ النُّقُوضِ تَصْلُحُ أَدِلَّةً لِأَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتْ تَسْلِيمَ أَنَّ الْجَهَالَةَ وَإِنْ كَانَتْ بِيَدِهِمَا إزَالَتُهَا بَعْدَ كَوْنِهَا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ فِي الثَّمَنِ كَالْبَيْعِ بِالرَّقْمِ وَبِأَيِّ ثَمَنٍ شَاءَ، أَوْ فِي الْمَبِيعِ كَبَيْعِ عَبْدٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ تَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ، وَجَهَالَةُ الثَّمَنِ عَلَى وَجْهٍ يُشْبِهُ الْقِمَارَ وَعَدَمُ الْعِلْمِ بِهِ مَعَ إمْكَانِ إزَالَتِهَا ثَابِتٌ فِي حَمْلِ النِّزَاعِ إذْ جَازَ أَنْ يَظْهَرَ كَوْنُهُ مِائَةً أَوْ خَمْسِينَ إلَّا بِكَيْلِ أَحَدِهِمَا، وَكَوْنُ ذَلِكَ بِكَيْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَفِي الرَّقْمِ يَظْهَرُ بِالْبَائِعِ فَقَطْ لَا أَثَرَ لَهُ فِي دَفْعِ مَنْعِ الْحَظْرِ وَالتَّمَكُّنِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْمُفْسِدُ وَإِذَا فَسَدَ الْبَيْعُ فِي عَبْدٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَالْجَهَالَةُ فِي مَضْبُوطٍ لِانْحِصَارِهَا فِي احْتِمَالَاتٍ أَرْبَعَةٍ لَا تَتَعَدَّاهَا، فَلَأَنْ تَفْسُدَ فِي صُبْرَةٍ لَا تَقِفُ الِاحْتِمَالَاتُ فِي خُصُوصِ الثَّمَنِ عَلَى كَوْنِهِ أَرْبَعَ إمْكَانَاتٍ أَوْ عَشَرَةً أَوْلَى، بَلْ وَيُسَجَّلُ عَلَيْهِمَا بِبُطْلَانِ قِيَاسِهِمَا عَلَى بَيْعِ عَبْدٍ مِنْ عَبْدَيْنِ إذْ ظَهَرَ مِنْ الْجَوَابِ أَنَّهُ مَعْدُولٌ عَنْ الْقِيَاسِ وَلِذَا امْتَنَعَ فِي أَرْبَعَةِ أَعْبُدٍ، وَحِينَئِذٍ تَرَجَّحَ قول أَبِي حَنِيفَةَ، وَظَهَرَ أَنَّ كَوْنَ الْعَاقِدَيْنِ بِيَدِهِمَا إزَالَةُ جَهَالَةِ صُلْبِ الْعَقْدِ مِنْ الثَّمَنِ، وَالْمَبِيعُ لَا يُوجِبُ صِحَّةَ الْبَيْعِ قَبْلَ إزَالَتِهَا بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ الصِّحَّةِ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ مَعَ إمْكَانِ إزَالَتِهَا فِيهَا، وَغَايَتُهُ إذَا أُزِيلَتْ فِي الْمَجْلِسِ وَهُمَا عَلَى رِضَاهُمَا ثَبَتَ بِعَقْدِ التَّرَاضِي وَالْمُعَاطَاةِ لَا بِعَيْنِ الْأَوَّلِ كَمَا ذَكَرَ فِي الرَّقْمِ، بَلْ وَلِهَذِهِ الْفُرُوعِ الْمَذْكُورَةِ أَمْثَالٌ يَطُولُ عَدُّهَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ فِيهَا لِجَهَالَةٍ فِي الثَّمَنِ أَوْ الْمَبِيعِ مَعَ إمْكَانِ إزَالَةِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَهَا، وَتَأْخِيرُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ دَلِيلَهُمَا ظَاهِرٌ فِي تَرْجِيحِهِ قولهُمَا وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَأَمَّا مَا يُحْمَلُ قول أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ مِمَّا.
ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ أَنَّهُ مَتَى أُضِيفَ كَلِمَةُ كُلٍّ إلَى مَا لَا تُعْلَمُ نِهَايَتُهُ فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ أَدْنَاهُ لِصِيَانَتِهِ عَنْ الْإِلْغَاءِ كَالْإِقْرَارِ بِأَنَّ عَلَيْهِ كُلَّ دِرْهَمٍ إنَّمَا يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ، وَكَذَا إجَارَةُ كُلِّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ تَلْزَمُ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ فَلَا حَاجَةَ لَهُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَنَعَ صِحَّةَ هَذَا الْأَصْلِ كَانَ إثْبَاتُهُ بِعَيْنِ مَا ذُكِرَ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ ثُبُوتِ الْجَهَالَةِ فِي الْمَجْمُوعِ وَالتَّيَقُّنِ فِي الْوَاحِدِ فَهُوَ نَفْسُهُ أَصْلُ هَذَا الْأَصْلِ.
فَرْعٌ:
اشْتَرَى طَعَامًا بِغَيْرِ جِنْسِهِ خَارِجَ الْمِصْرِ وَشَرَطَ أَنْ يُوفِيَهُ فِي مَنْزِلٍ مِنْ الْمِصْرِ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُهُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، فَإِذَا اشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ مَنْفَعَةَ الْحَمْلِ فَسَدَ، وَلَوْ كَانَ فِي الْمِصْرِ وَشَرَطَ أَنْ يَحْمِلَهُ إلَى مَنْزِلِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَلَوْ عَبَّرَ بِقولهِ بِشَرْطِ أَنْ يُوفِيَهُ فِي مَنْزِلِهِ فَفِي الْقِيَاسِ فَاسِدٌ وَهُوَ قول مُحَمَّدٍ.
وَاسْتَحْسَنَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ جَوَازَهُ بِالْعُرْفِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَشْتَرِي الْحَطَبَ وَالشَّعِيرَ عَلَى الدَّابَّةِ فِي الْمِصْرِ وَلَا يَكْتَرِي دَابَّةً أُخْرَى يَحْمِلُهُ عَلَيْهَا بَلْ الْبَائِعُ هُوَ يَحْمِلُهُ بِخِلَافِهِ خَارِجَ الْمِصْرِ، وَبَعْضُ الْمَشَايِخِ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ لَفْظِ الْحَمْلِ وَالْإِيفَاءِ فِي الِاسْتِحْسَانِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمَا وَاحِدٌ، وَاخْتَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْفَرْقَ فَإِنَّ الْإِيفَاءَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ فَشَرْطُهُ مُلَائِمٌ بِخِلَافِ الْحَمْلِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ بَاعَ قَطِيعَ غَنَمٍ كُلُّ شَاةٍ بِدِرْهَمٍ فَسَدَ الْبَيْعُ فِي جَمِيعِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَلِكَ مَنْ بَاعَ ثَوْبًا مُذَارَعَةً كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ وَلَمْ يُسَمِّهِ جُمْلَةَ الذِّرَاعَانِ، وَكَانَ كُلُّ مَعْدُودٍ مُتَفَاوِتٍ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ فِي الْكُلِّ لِمَا قُلْنَا، وَعِنْدَهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدِ) لِمَا بَيَّنَّا غَيْرَ أَنَّ بَيْعَ شَاةٍ مِنْ قَطِيعِ غَنَمٍ وَذِرَاعٍ مِنْ ثَوْبٍ لَا يَجُوزُ لِلتَّفَاوُتِ.
وَبَيْعُ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ يَجُوزُ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ فَلَا تُفْضِي الْجَهَالَةُ إلَى الْمُنَازَعَةِ فِيهِ، وَتَقْضِي إلَيْهَا فِي الْأَوَّلِ فَوَضَحَ الْفَرْقُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ بَاعَ قَطِيعَ غَنَمٍ إلَخْ) لَمَّا ذَكَرَ الصُّورَةَ فِي الْمِثْلِيَّاتِ ذَكَرَ نَظِيرَهَا فِي الْقِيَمِيَّاتِ، فَإِذَا أَضَافَ الْبَيْعَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَيَوَانَاتِ بِأَنْ قَالَ بِعْتُك هَذِهِ الْقَطِيعَ كُلُّ شَاةٍ بِدِرْهَمٍ أَوْ هَذَا الثَّوْبَ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمِ وَلَمْ يُبَيِّنْ عَدَدَ الْغَنَمِ وَلَا الذِّرَاعَيْنِ وَلَا جُمْلَةَ الثَّمَنِ فَسَدَ فِي الْكُلِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، أَمَّا إذَا سَمَّى أَحَدَهُمَا فَيَصِحُّ بِالِاتِّفَاقِ لِلْعِلْمِ بِتَمَامِ الثَّمَنِ مُطَابَقَةً أَوْ الْتِزَامًا فِيمَا إذَا اقْتَصَرَ عَلَى بَيَانِ عَدَدِ الْقَطِيعِ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ فِي الْكُلِّ لِمَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ الْجَهَالَةَ بِيَدِهِمَا إزَالَتُهَا وَعِنْدَهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ جَهَالَةِ كُلِّ الثَّمَنِ وَإِلْغَاءِ كَوْنِ ارْتِفَاعِهَا بِيَدِهِمَا غَيْرَ أَنَّ الْآحَادَ هُنَا مُتَفَاوِتَةٌ فَلَمْ يَنْقَسِمْ الثَّمَنُ عَلَى الْجُمْلَةِ بِالْإِجْزَاءِ فَتَقَعُ الْمُنَازَعَةُ فِي تَعْيِينِ ذَلِكَ الْوَاحِدِ فَفَسَدَ فِي الْكُلِّ، وَلِهَذَا لَوْ بَاعَ شَاةً أَوْ عَشَرَةً مِنْ مِائَةٍ أَوْ بِطِّيخَةً أَوْ عَشْرًا مِنْ وَقْرِ بِطِّيخٍ كَانَ بَاطِلًا.
وَأَمَّا الْجَوَازُ فِيمَا إذَا عَزَلَهَا وَذَهَبَ وَالْبَائِعُ سَاكِتٌ فَبِالتَّعَاطِي عَلَى مَا قَدَّمْنَا قَالَ الْعَتَّابِيُّ: إنَّ ذَلِكَ فِي ثَوْبٍ يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ، أَمَّا فِي الْكِرْبَاسِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ عِنْدَهُ فِي ذِرَاعٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي الطَّعَامِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كُلُّ مَعْدُودٍ مُتَفَاوِتٍ كَحِمْلِ بِطِّيخٍ كُلُّ بِطِّيخَةٍ بِفَلْسٍ وَالرُّمَّانُ وَالسَّفَرْجَلُ وَالْخَشَبُ وَالْأَوَانِي وَالرَّقِيقُ وَالْإِبِلُ.
وَلَوْ بَاعَ نَصِيبَهُ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ وَإِنْ بَيَّنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَا فِي الدَّارِ، وَهَذَا غَيْرُ الْأَلْيَقِ بِأَصْلِهِ الْمَذْكُورِ فِي الْخِلَافِيَّةِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ اشْتَرَى الْعِنَبَ كُلُّ وَقْرٍ بِكَذَا، وَالْوَقْرُ عِنْدَهُ مَعْرُوفٌ، إذَا كَانَ الْعِنَبُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ فِي وَقْرٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا فِي بَيْعِ الصُّبْرَةِ كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ، وَإِنْ كَانَ الْعِنَبُ أَجْنَاسًا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ أَصْلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَقَطِيعِ الْغَنَمِ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا فِي كُلِّ الْعِنَبِ كُلُّ وَقْرٍ بِمَا قَالَ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْجِنْسُ مُخْتَلِفًا فَكَذَا أَوْرَدَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ، وَالْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ جَعَلَ الْجَوَابَ بِالْجَوَازِ فِيمَا إذَا كَانَ الْعِنَبُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَجْنَاسٍ مُخْتَلَفًا فِيهِ.
ثُمَّ قَالَ الْفَقِيهُ: وَالْفَتْوَى عَلَى قولهِمَا تَيْسِيرًا لِلْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ انْتَهَى، وَتَفْرِيعُ الصَّدْرِ الشَّهِيدِ أَوْجَهُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ ابْتَاعَ صُبْرَةَ طَعَامٍ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ قَفِيزٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَوَجَدَهَا أَقَلَّ كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَوْجُودَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ) لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّمَامِ، فَلَمْ يَتِمَّ رِضَاهُ بِالْمَوْجُودِ، وَإِنْ وَجَدَهَا أَكْثَرَ فَالزِّيَادَةُ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ وَالْقَدْرُ لَيْسَ بِوَصْفٍ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ ابْتَاعَ صُبْرَةَ طَعَامٍ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ قَفِيزٍ) مَثَلًا (بِمِائَةٍ) تَعَلَّقَ الْعَقْدُ عَلَى ذَلِكَ الْكَيْلِ الْمُسَمَّى بِعَيْنِهِ حَتَّى لَوْ وُجِدَتْ نَاقِصَةً (كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، إنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَوْجُودَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ)؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ يَنْقَسِمُ بِالْأَجْزَاءِ عَلَى أَجْزَاءِ الْمَبِيعِ الْمِثْلِيِّ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا، (فَإِنْ شَاءَ فَسْخَ الْبَيْعَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ) الْوَاحِدَةِ عَلَيْهِ، وَكَذَا الْخُلَاصَةُ فِي كُلِّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ (وَإِنْ وَجَدَهَا زَائِدَةً فَالزِّيَادَةُ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ) لَيْسَ لَهُ جِهَةُ الْوَصْفِيَّةِ، فَمَا زَادَ عَلَيْهِ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ فَيَكُونُ لِلْبَائِعِ.

متن الهداية:
(وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ عَشْرَةُ أَذْرُعٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ أَرْضًا عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ ذِرَاعٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَوَجَدَهَا أَقَلَّ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِجُمْلَةِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ)؛ لِأَنَّ الذِّرَاعَ وَصْفٌ فِي الثَّوْبِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الطُّولِ وَالْعَرْضِ، وَالْوَصْفُ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ كَأَطْرَافِ الْحَيَوَانِ فَلِهَذَا يَأْخُذُهُ بِكُلِّ الثَّمَنِ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمِقْدَارَ يُقَابِلُهُ الثَّمَنُ فَلِهَذَا يَأْخُذُهُ بِحِصَّتِهِ، إلَّا أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ لِفَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ لِتَغَيُّرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيَخْتَلُّ الرِّضَا.
قَالَ: (وَإِنْ وَجَدَهَا أَكْثَرَ مِنْ الذِّرَاعِ الَّذِي سَمَّاهُ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي وَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ)؛ لِأَنَّهُ صِفَةٌ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا بَاعَهُ مَعِيبًا، فَإِذَا هُوَ سَلِيمٌ.
الشَّرْحُ:
وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرَى ثَوْبًا أَوْ أَرْضًا عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةٌ بِعَشَرَةٍ أَوْ مِائَةُ ذِرَاعٍ بِمِائَةٍ فَوَجَدَ الْمَبِيعَ أَقَلَّ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَوْجُودَ بِكُلِّ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَإِنْ وَجَدَهَا زَائِدَةً عَلَى الْعَشَرَةِ أَوْ الْمِائَةِ كَانَ الْكُلُّ لِلْمُشْتَرِي (وَلَوْ) كَانَ (قَالَ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ ذِرَاعٍ) مَثَلًا (بِمِائَةٍ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ فَوَجَدَهَا أَقَلَّ فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ) إنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَوْجُودَ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ (وَإِنْ كَانَ) وَجَدَهَا أَكْثَرَ فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْكُلَّ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ، أَصْلُ هَذَا أَنَّ الذِّرَاعَ فِي الْمَذْرُوعَاتِ وَصْفٌ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ طُولٍ فِيهِ لَكِنَّهُ وَصْفٌ يَسْتَلْزِمُ زِيَادَةَ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ لَمْ يُفْرَدْ بِثَمَنٍ كَانَ تَابِعًا مَحْضًا فَلَا يُقَابَلُ بِشَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ، وَذَلِكَ فِيمَا إذَا قَالَ عَلَى أَنَّهَا مِائَةٌ بِمِائَةٍ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ تَابِعًا مَحْضًا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَالتَّوَابِعُ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ كَأَطْرَافِ الْحَيَوَانِ حَتَّى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَاعْوَرَّتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا يَنْقُصُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، أَوْ اعْوَرَّتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي جَازَ لَهُ أَنْ يُرَابَحَ عَلَى ثَمَنِهَا بِلَا بَيَانٍ فَعَلَيْهِ تَمَامُ الثَّمَنِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، وَإِنَّمَا يَتَخَيَّرُ لِفَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ كَمَا إذَا اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ كَاتِبٌ فَوَجَدَهُ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ، وَلَهُ الزَّائِدُ فِي الصُّورَةِ الزَّائِدَةِ (كَمَا إذَا بَاعَهُ) عَلَى أَنَّهُ مَعِيبٌ فَوَجَدَهُ سَلِيمًا، هَذَا إذَا لَمْ يُفْرِدْ بِالثَّمَنِ، فَإِنْ أَفْرَدَ بِالثَّمَنِ، وَهُوَ مَا إذَا قَالَ عَلَى أَنَّهَا مِائَةٌ بِمِائَةٍ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ صَارَ أَصْلًا وَارْتَفَعَ عَنْ التَّبَعِيَّةِ فَنَزَلَ كُلُّ ذِرَاعٍ بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبِ.

متن الهداية:
(وَلَوْ قَالَ بِعْتُكهَا عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ ذِرَاعٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ فَوَجَدَهَا نَاقِصَةً، فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ)؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ وَإِنْ كَانَ تَابِعًا لَكِنَّهُ صَارَ أَصْلًا بِإِفْرَادِهِ بِذَكَرِ الثَّمَنِ فَيَنْزِلُ كُلُّ ذِرَاعٍ مَنْزِلَةَ ثَوْبٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ بِكُلِّ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ آخِذًا لِكُلِّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ (وَإِنْ وَجَدَهَا زَائِدَةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْجَمِيعَ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ) لِأَنَّهُ إنْ حَصَلَ لَهُ الزِّيَادَةُ فِي الذَّرْعِ تَلْزَمُهُ زِيَادَةُ الثَّمَنِ فَكَانَ نَفْعًا يَشُوبُهُ ضَرَرٌ فَيَتَخَيَّرُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ صَارَ أَصْلًا، وَلَوْ أَخَذَهُ بِالْأَقَلِّ لَمْ يَكُنْ آخِذًا بِالْمَشْرُوطِ.
الشَّرْحُ:
وَلَوْ بَاعَهُ هَذِهِ الرِّزْمَةَ مِنْ الثِّيَابِ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ ثَوْبٍ بِدِرْهَمٍ فَوَجَدَهَا نَاقِصَةً يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْأَثْوَابَ الْمَوْجُودَةَ بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ، فَكَذَا إذَا وَجَدَ الذِّرَاعَيْنِ نَاقِصَةً فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهَا بِكُلِّ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ آخِذًا كُلَّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ، وَلَوْ وَجَدَهَا زَائِدَةً لَمْ تُسْلَمْ لَهُ الزِّيَادَةُ لِصَيْرُورَتِهِ أَصْلًا كَمَا لَوْ لَمْ يُسْلَمْ لَهُ الثَّوْبُ الْمُفْرَدُ فِيمَا إذَا زَادَتْ عَدَدُ الثِّيَابِ عَلَى الْمَشْرُوطِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، فَإِنَّ عَدَدَ الثِّيَابِ إذَا زَادَتْ فَسَدَ الْبَيْعُ لِلُزُومِ جَهَالَةِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ الْمُنَازَعَةَ تَجْرِي فِي تَعْيِينِ الثَّوْبِ الَّذِي يُرَدُّ إلَى الْبَائِعِ بِسَبَبِ أَنَّهُ أَصْلٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
أَمَّا هُنَا فَالذِّرَاعُ لَيْسَ أَصْلًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِيُفْسِدَ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الزَّائِدَ بِحِصَّتِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ صَحَّ لَهُ أَخْذُ الزَّائِدِ لَكِنَّهُ بِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ وَهُوَ زِيَادَةُ الثَّمَنِ، وَلَمْ يَكُنْ يَلْزَمُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ، وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُمْ اعْتَبَرُوا الطُّولَ وَصْفًا تَارَةً وَأَصْلًا أُخْرَى، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا الْقَدْرَ فِي الْمِثْلِيَّاتِ إلَّا أَصْلًا دَائِمًا مَعَ أَنَّ الطُّولَ وَالْعَرْضَ يَرْجِعُ إلَى الْقَدْرِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ الْقَدْرَ وَصْفًا اُحْتِيجَ إلَى الْفَرْقِ فَقِيلَ لِأَنَّ الْمِثْلِيَّ لَا تَنْقُصُ قِيمَتُهُ بِنُقْصَانِ الْقَدْرِ، فَإِنَّ الصُّبْرَةَ الْكَائِنَةَ مِائَةُ قَفِيزٍ لَوْ صَارَتْ إلَى قَفِيزَيْنِ فِي الْقِلَّةِ لَمْ تَنْقُصْ قِيمَةُ الْقَفِيزِ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ وَالْأَرْضِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّوْبَ الَّذِي عَادَتُهُ عَشَرَةٌ وَهُوَ قَدْرُ مَا يُفَصِّلُ قَبَاءً أَوْ فَرَجِيَّةً كَانَ بِثَمَنٍ إذَا قُسِّمَ عَلَى أَجْزَائِهِ يُصِيبُ كُلَّ ذِرَاعٍ مِنْهُ مِقْدَارٌ، وَلَوْ أُفْرِدَ الذِّرَاعُ وَبِيعَ بِمُفْرَدِهِ لَمْ يُسَاوِ فِي الْأَسْوَاقِ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ بَلْ أَقَلَّ مِنْهُ بِكَثِيرٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْغَرَضَ الَّذِي يُصْنَعُ بِالثَّوْبِ الْكَامِلِ فَعَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ لَمْ يُعْتَبَرْ كَثَوْبٍ كَامِلٍ مُفْرَدٍ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ اشْتَرَى عَشْرَةَ أَذْرُعٍ مِنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ دَارٍ أَوْ حَمَّامٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: هُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ اشْتَرَى عَشْرَةَ أَسْهُمٍ مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ جَازَ فِي قولهِمْ جَمِيعًا) لَهُمَا أَنَّ عَشْرَةَ أَذْرُعٍ مِنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ عُشْرُ الدَّارِ فَأَشْبَهَ عَشْرَةَ أَسْهُمٍ.
وَلَهُ أَنَّ الذِّرَاعَ اسْمٌ لِمَا يَذْرَعُ بِهِ، وَاسْتُعِيرَ لِمَا يَحِلُّهُ الذِّرَاعُ وَهُوَ الْمُعَيَّنُ دُونَ الْمَشَاعِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، بِخِلَافِ السَّهْمِ.
وَلَا فَرْقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ مَا إذَا عَلِمَ مِنْ جُمْلَةِ الذِّرَاعَانِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ هُوَ الصَّحِيحُ خِلَافًا لِمَا يَقولهُ الْخَصَّافُ لِبَقَاءِ الْجَهَالَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ بَاعَ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ مِنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ دَارٍ أَوْ حَمَّامٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَا: هُوَ جَائِزٌ) وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَإِنْ اشْتَرَى عَشَرَةَ أَسْهُمٍ مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ) مِنْهَا (جَازَ فِي قولهِمْ جَمِيعًا) وَمَبْنَى الْخِلَافِ عَلَى أَنَّ الْمُؤَدَّى مِنْ عَشْرَةِ أَذْرُعٍ مِنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ مُعَيَّنٌ أَوْ شَائِعٌ فَعِنْدَهُمَا شَائِعٌ كَأَنَّهُ بَاعَ عُشْرَ مِائَةٍ وَبَيْعُ الشَّائِعِ جَائِزٌ اتِّفَاقًا كَمَا فِي بَيْعِ عَشْرَةِ أَسْهُمٍ مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ، وَعِنْدَهُ مُؤَدَّاةُ قَدْرٍ مُعَيَّنٍ، وَالْجَوَانِبُ مُخْتَلِفَةُ الْجَوْدَةِ فَتَقَعُ الْمُنَازَعَةُ فِي تَعْيِينِ مَكَانِ الْعَشَرَةِ فَفَسَدَ الْبَيْعُ، فَلَوْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مُؤَدَّى عَشَرَةِ أَذْرُعٍ مِنْ مِائَةٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ شَائِعٌ لَمْ يَخْتَلِفُوا، وَلَوْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ لَمْ يَخْتَلِفُوا، فَهُوَ نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ فِي نِكَاحِ الصَّابِئَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَلَا كِتَابَ لَهُمْ أَوْ لَهُمْ كِتَابٌ، فَلَوْ اتَّفَقُوا عَلَى الثَّانِي اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِهِ، أَوْ عَلَى الْأَوَّلِ اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ، فَالشَّأْنُ فِي تَرْجِيحِ الْمَبْنِيِّ فَأَبُو حَنِيفَةَ يَقول (الذِّرَاعُ اسْمٌ لِمَا يُذْرَعُ بِهِ) وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالْمَبِيعِ عَشْرًا مِنْ الْخَشَبَاتِ الَّتِي يَذْرَعُ بِهَا فَكَانَ مُسْتَعَارًا لِمَا يَحِلُّهَا، وَمَا يَحِلُّهُ مُعَيَّنٌ فَكَانَ الْمَبِيعُ مُعَيَّنًا مُقَدَّرًا بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ (بِخِلَافِ) عَشَرَةِ أَسْهُمٍ؛ لِأَنَّ السَّهْمَ اسْمٌ لِلْجُزْءِ الشَّائِعِ فَكَانَ الْمَبِيعُ عَشْرَةَ أَجْزَاءٍ شَائِعَةٍ مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ.
وَقَدْ يُقَالُ إنَّ تَعْيِينَ جُمْلَةِ ذُرْعَانِ الدَّارِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ بَيْعَ الشَّائِعِ؛ لِأَنَّ بِهِ يُعْرَفُ نِسْبَةُ الْعَشَرَةِ مِنْ الْكُلِّ أَنَّهَا بِالْعُشْرِ، وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ فِي تَعْيِينِهِ؛ لِأَنَّ الْعَشَرَةَ أَذْرُعٍ لَا يَتَفَاوَتُ مِقْدَارُهَا بِتَعْيِينِ الْكُلِّ وَعَدَمِهِ.
وَقَدْ يُقَالُ فَائِدَتُهُ لَا تَتَعَيَّنُ فِي ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يُرْفَعَ بِهِ الْفَسَادُ، فَإِنَّ بَيْعَ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ مِنْ ثَوْبٍ لَا يَجُوزُ عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا عَلَى قولهِمَا عَلَى تَخْرِيجِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَشَايِخِ، وَعَلَى قول آخَرِينَ يَجُوزُ لِأَنَّهَا جَهَالَةٌ بِيَدِهِمَا إزَالَتُهَا فَيُذْرَعُ الْكُلُّ فَيُعْرَفُ نِسْبَةُ الْعَشَرَةِ، وَصُحِّحَ هَذَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ لَهُمَا مِنْ بَيْعِ صُبْرَةٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْعَاقِدُ يَرَى الرَّأْيَ الْأَوَّلَ.
وَلَمَّا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْجَامِعِ فِي عَشَرَةِ أَذْرُعٍ مِنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ ظَهَرَ أَنَّ مَا قَالَ الْخَصَّافُ مِنْ أَنَّ الْفَسَادَ عِنْدَهُ فِيمَا إذَا لَمْ يُعْرَفْ جُمْلَةُ الذُّرْعَانِ؛ وَأَمَّا إذَا عُرِفَ جُمْلَتُهَا فَالْبَيْعُ عِنْدَهُ صَحِيحٌ غَيْرُ وَاقِعٍ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ، وَكَذَا مِنْ جِهَةِ الدِّرَايَةِ فَإِنَّ الْفَسَادَ عِنْدَهُ لِلْجَهَالَةِ كَمَا قُلْنَا، وَبِمَعْرِفَةِ قَدْرِ جُمْلَةِ الْمَبِيعِ لَا تَنْتَفِي الْجَهَالَةُ عَنْ الْبَعْضِ الَّذِي بِيعَ مِنْهُ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قولهِمَا فِيمَا إذَا بَاعَ ذِرَاعًا أَوْ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ، وَلَمْ يُسَمِّ جُمْلَتَهَا فَقِيلَ عَلَى قولهِمَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ صِحَّتَهُ عَلَى قولهِمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ جُزْءٌ شَائِعٌ مَعْلُومُ النِّسْبَةِ مِنْ الْكُلِّ، وَذَلِكَ فَرْعُ مَعْرِفَةِ جُمْلَتِهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهَا جَهَالَةٌ بِأَيْدِيهِمَا إزَالَتُهَا بِأَنْ تُقَاسَ كُلُّهَا فَيُعْرَفُ نِسْبَةُ الذِّرَاعِ أَوْ الْعَشَرَةِ مِنْهَا فَيُعْلَمُ قَدْرُ الْمَبِيعِ.

متن الهداية:
وَلَوْ اشْتَرَى عِدْلًا عَلَى أَنَّهُ عَشْرَةُ أَثْوَابٍ فَإِذَا هُوَ تِسْعَةٌ أَوْ أَحَدَ عَشَرَ فَسَدَ الْبَيْعُ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ أَوْ الثَّمَنِ (وَلَوْ بَيَّنَ لِكُلِّ ثَوْبٍ ثَمَنًا جَازَ فِي فَصْلِ النُّقْصَانِ بِقَدْرِهِ وَلَهُ الْخِيَارُ، وَلَمْ يَجُزْ فِي الزِّيَادَةِ) لِجَهَالَةِ الْعَشَرَةِ الْمَبِيعَةِ.
وَقِيلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ فِي فَصْلِ النُّقْصَانِ أَيْضًا وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ عَلَى أَنَّهُمَا هَرَوِيَّانِ فَإِذَا أَحَدُهُمَا مَرْوِيٌّ حَيْثُ لَا يَجُوزُ فِيهِمَا، وَإِنْ بَيَّنَ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْقَبُولَ فِي الْمَرْوِيِّ شَرْطًا لِجَوَازِ الْعَقْدِ فِي الْهَرَوِيِّ، وَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ وَلَا قَبُولَ يُشْتَرَطُ فِي الْمَعْدُومِ فَافْتَرَقَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ بَاعَ عِدْلًا) صُورَتُهَا أَنْ يَقول بِعْتُك مَا فِي هَذَا الْعِدْلِ عَلَى أَنَّهُ عَشْرَةُ أَثْوَابٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ مَثَلًا، وَلَمْ يُفَصِّلْ لِكُلِّ ثَوْبٍ ثَمَنًا بَلْ قَالَ الْمَجْمُوعُ بِالْمَجْمُوعِ (فَإِذَا هُوَ تِسْعَةٌ أَوْ أَحَدَ عَشَرَ فَسَدَ الْبَيْعُ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ) فِي صُورَةِ الزِّيَادَةِ لِمَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَرِيبٍ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الثَّوْبِ وَالذِّرَاعِ الَّذِي صَارَ أَصْلًا مِنْ وَجْهٍ (وَالثَّمَنُ) فِي صُورَةِ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ لَا يَنْقَسِمُ أَجْزَاؤُهُ عَلَى حَسَبِ أَجْزَاءِ الْمَبِيعِ الْقِيَمِيِّ وَالثِّيَابِ مِنْهُ فَلَمْ يُعْلَمْ لِلثَّوْبِ الذَّاهِبِ حِصَّةً مَعْلُومَةً مِنْ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى لِيُنْقِصَ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْهُ فَكَانَ النَّاقِصُ مِنْ الثَّمَنِ قَدْرًا مَجْهُولًا فَيَصِيرُ الثَّمَنُ مَجْهُولًا (وَلَوْ) كَانَ (فَصَّلَ لِكُلِّ ثَوْبٍ ثَمَنًا) بِأَنْ قَالَ كُلُّ ثَوْبٍ بِعَشَرَةٍ (جَازَ) الْبَيْعُ (فِي فَصْلِ النُّقْصَانِ بِقَدْرِهِ) أَيْ بِمَا سِوَى قَدْرِ النَّاقِصِ لِعَدَمِ الْجَهَالَةِ لَكِنْ مَعَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ (وَلَمْ يَجُزْ فِي الزِّيَادَةِ)؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمَبِيعِ لَا تَرْتَفِعُ فِيهِ لِوُقُوعِ الْمُنَازَعَةِ فِي تَعْيِينِ الْعَشَرَةِ الْمَبِيعَةِ مِنْ الْأَحَدَ عَشَرَ وَقِيلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ (فِي فَصْلِ النُّقْصَانِ أَيْضًا) قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ فِي الثِّيَابِ الْمَوْجُودَةِ قولهُمَا.
وَأَمَّا عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ فَسَدَ فِي الْبَعْضِ بِمُفْسِدٍ مُقَارَنٍ وَهُوَ الْعَدَمُ، وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَقْدَ مَتَى فَسَدَ فِي الْبَعْضِ بِفَسَادٍ مُقَارَنٍ يَفْسُدُ فِي الْبَاقِي، وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ مَسْأَلَةً فِي الْجَامِعِ تَدُلُّ عَلَى هَذَا وَهِيَ رَجُلٌ (اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ عَلَى أَنَّهُمَا هَرَوِيَّانِ) كُلُّ ثَوْبٍ بِعَشَرَةٍ (فَإِذَا أَحَدُهُمَا مَرْوِيٌّ) بِسُكُونِ الرَّاءِ نِسْبَةً إلَى قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْكُوفَةِ، أَمَّا النِّسْبَةُ إلَى مَرْوَ الْمَعْرُوفَةِ بِخُرَاسَانَ فَقَدْ الْتَزَمُوا فِيهَا زِيَادَةَ الزَّايِ فَيُقَالُ مَرْوَزِيُّ وَكَأَنَّهُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ، قَالَ: فَسَدَ الْبَيْعُ فِي الثَّوْبَيْنِ جَمِيعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ فِي الْهَرَوِيِّ، وَالْفَائِتُ فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصِّفَةُ لَا أَصْلُ الثَّوْبِ وَقَدْ فَسَدَ فِي الْكُلِّ بِفَوَاتِهِ فَفَسَادٌ فِي الْكُلِّ وَالْفَائِتِ أَحَدُهَا أَوْلَى، وَإِلَيْهِ مَالَ الْحَلْوَانِيُّ وَقَالَ إنَّهُ الصَّحِيحُ عِنْدَهُ، وَكَذَا نَسَبَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ إلَى أَكْثَرِ مَشَايِخِنَا، ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ هَذَا قولهُمْ جَمِيعًا: يَعْنِي عَدَمَ الْفَسَادِ فِي الْبَاقِي؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ فِي نَظَائِرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ فِي الْكُلِّ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الْمُفْسِدَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ قَبُولَ الْعَقْدِ فِيمَا يَفْسُدُ فِيهِ الْعَقْدُ شَرْطًا فِي قَبُولِهِ فِي الْآخَرِ وَهُنَا لَمْ يُوجَدْ هَذَا فَإِنَّهُ مَا شَرَطَ قَبُولَ الْعَقْدِ فِي الْمَعْدُومِ وَلَا قَصَدَ إيرَادَ الْعَقْدِ عَلَى الْمَعْدُومِ بَلْ عَلَى الْمَوْجُودِ فَقَطْ فَغَلَطَ فِي الْعَدَدِ، بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُ جَعَلَ قَبُولَ الْعَقْدِ فِي كُلٍّ مِنْ الثَّوْبَيْنِ شَرْطًا لِقَبُولِهِ فِي الْآخَرِ وَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ.
وَأَقول: قولهُ مَا شَرَطَ قَبُولَ الْعَقْدِ فِي الْمَعْدُومِ إنْ كَانَ صَرِيحًا مَعْلُومًا وَلَا يَضُرُّ، فَإِنَّ فِي الثَّوْبَيْنِ أَيْضًا مَا شَرَطَ قَبُولَهُ فِي الْمَرْوِيِّ صَرِيحًا، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّهُ إذَا أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى مُتَعَدِّدِ صَفْقَةٍ كَانَ قَبُولُ الْعَقْدِ فِي كُلٍّ شَرْطًا فِي قَبُولِهِ فِي الْآخَرِ كَمَا فِي الثَّوْبَيْنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي الْعَشَرَةِ أَيْضًا كَذَلِكَ، فَكَانَ قَبُولُهُ فِي الْعَاشِرِ شَرْطًا لِقَبُولِهِ فِيمَا سِوَاهُ وَلَا وُجُودَ لِلْعَاشِرِ، فَكَانَ قَبُولُهُ فِي الْمَعْدُومِ شَرْطًا إلَى آخِرِهِ.
وَحَاصِلُ قولهِ وَمَا قَصَدَهُ إلَى آخِرِهِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ أَنَّ الشَّيْئَيْنِ الْمَوْجُودَيْنِ الْمَوْصُوفَيْنِ بِوَصْفٍ إذَا دَخَلَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ كَانَ قَبُولُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِذَلِكَ الْوَصْفِ شَرْطًا لِلْقَبُولِ فِي الْآخَرِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ، فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ الْوَصْفُ فِي أَحَدِهِمَا كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا فَاسِدًا فِي الْقَبُولِ فِي الْآخَرِ، بِخِلَافِ مَا إذْ كَانَ مَعْدُومًا بِذَاتِهِ وَوَصْفِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ حِينَئِذٍ دَاخِلًا فِي الْعَقْدِ حَتَّى يَكُونَ قَبُولُهُ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ فِي الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ فَيَجْعَلُ ذَلِكَ غَلَطًا، فَلَمَّا لَمْ يُجْعَلْ شَرْطًا لَمْ يَفْسُدْ الْعَقْدُ فِي الْآخَرَ.
فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ مَحَطَّ الْفَرْقِ فِي اعْتِبَارِ الْغَلَطِ وَعَدَمِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اعْتِبَارَ الْغَلَطِ إنَّمَا يَتَأَتَّى مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إنَّمَا أَوْجَبَ فِي تِسْعَةٍ؛ وَلَكِنَّهُ عَبَّرَ عَنْهَا بِعَشَرَةٍ غَلَطًا، فَالْمُشْتَرِي لَمَّا قَبِلَ فِي عَشَرَةٍ مَا كَانَ غَالِطًا فَمَا تَلَاقَى الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، كَمَا لَوْ عَزَلَ تِسْعَةَ أَثْوَابٍ مِنْ الْعَشَرَةِ وَقَالَ بِعْتُك هَذِهِ التِّسْعَةَ فَقَالَ قَبِلْت فِي الْعَشَرَةِ لَا يَتِمُّ الْعَقْدُ فِي التِّسْعَةِ وَلَا الْعَشَرَةِ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَى غَلَطِهِ أَنَّهُ قَصَدَ الْإِيجَابَ فِي عَشَرَةٍ وَلَيْسَ فِي الْوَاقِعِ إلَّا تِسْعَةٌ لَمْ يُفْسِدْ الصِّحَّةَ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْدُومٌ وَقَدْ جَعَلَ قَبُولَ الْعَقْدِ فِيهِ شَرْطًا لِقَبُولِهِ فِي التِّسْعَةِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ جَادٌّ فِي اعْتِقَادِ قِيَامِ الْعَشَرَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ فَأَحْرَى أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بَاطِلًا كَمَا ذَكَرَ فِيمَنْ بَاعَ كُرًّا مِنْ حِنْطَةٍ وَلَيْسَ فِي مِلْكِهِ حِنْطَةٌ الْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَلِأَنَّهُ بَاعَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ.
وَفِي الْمُحِيطِ: رَوَى قَاضِي الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْعَقْدَ فَاسِدٌ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَفِيهِ أَبِيعُك هَذِهِ الْحِنْطَةَ عَلَى أَنَّهَا أَقَلَّ مِنْ كُرٍّ فَوَجَدَهَا كَذَلِكَ جَازَ، إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَإِنْ وَجَدَهَا كُرًّا أَوْ أَكْثَرَ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، وَكَذَا إذَا قَالَ عَلَى أَنَّهَا أَكْثَرُ مِنْ كُرٍّ فَوَجَدَهَا كَذَلِكَ، وَإِنْ وَجَدَهَا كُرًّا أَوْ دُونَهُ فَفَاسِدٌ، وَلَوْ قَالَ كُرًّا أَوْ كُرَّيْنِ جَازَ كَيْفَ مَا كَانَ غَيْرَ أَنَّهُ يُخَيَّرُ فِي الْأَقَلِّ، كَمَا لَوْ قَالَ عَلَى أَنَّهَا كُرٌّ، وَعَلَى هَذَا إذَا اشْتَرَى عِنَبًا فِي كَرْمٍ مُعَيَّنٍ عَلَى أَنَّهُ كَذَا وَكَذَا مَنًّا، وَكَذَا فِي الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ انْتَهَى.
وَوَجْهُ الْفَسَادِ فِي الْأَكْثَرِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ قَدْرَ الزَّائِدِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْأَقَلِّ مِنْ الْكُرِّ وَالْأَكْثَرِ مِنْهُ مِقْدَارٌ مُعَيَّنٌ لِيُعْرَفَ الزَّائِدُ عَلَيْهِ فَيُرَدُّ إلَى الْبَائِعِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ كُرًّا أَوْ كُرَّيْنِ، وَلَا وَجْهَ لِلرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ غَايَةَ مَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ بَاعَ صُبْرَةً بِشَرْطِ أَنْ لَا تَبْلُغَ الْمِقْدَارَ الْفُلَانِيَّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

متن الهداية:
(وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا وَاحِدًا عَلَى أَنَّهُ عَشْرَةُ أَذْرُعٍ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ فَإِذَا هُوَ عَشْرَةٌ وَنِصْفٌ أَوْ تِسْعَةٌ وَنِصْفٌ)، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَأْخُذُهُ بِعَشْرَةٍ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يَأْخُذُهُ بِتِسْعَةٍ إنْ شَاءَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَأْخُذُهُ بِأَحَدَ عَشَرَ إنْ شَاءَ، وَفِي الثَّانِي يَأْخُذُ بِعَشْرَةٍ إنْ شَاءَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَأْخُذُ فِي الْأَوَّلِ بِعَشْرَةٍ وَنِصْفٍ إنْ شَاءَ، وَفِي الثَّانِي بِتِسْعَةٍ وَنِصْفٍ وَيُخَيَّرُ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ مُقَابَلَةِ الذِّرَاعِ بِالدِّرْهَمِ مُقَابَلَةُ نِصْفِهِ بِنِصْفِهِ فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُهَا.
وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَمَّا أَفْرَدَ كُلَّ ذِرَاعٍ بِبَدَلٍ نَزَلَ كُلُّ ذِرَاعٍ مَنْزِلَةَ ثَوْبٍ عَلَى حِدَةٍ وَقَدْ انْتَقَضَ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الذِّرَاعَ وَصْفٌ فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا أَخَذَ حُكْمَ الْمِقْدَارِ بِالشَّرْطِ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالذِّرَاعِ، فَعِنْدَ عَدَمِهِ عَادَ الْحُكْمُ إلَى الْأَصْلِ.
وَقِيلَ فِي الْكِرْبَاسِ الَّذِي لَا يَتَفَاوَتُ جَوَانِبُهُ لَا يَطِيبُ لِلْمُشْتَرِي مَا زَادَ عَلَى الْمَشْرُوطِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْزُونِ حَيْثُ لَا يَضُرُّهُ الْفَصْلُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالُوا: يَجُوزُ بَيْعُ ذِرَاعٍ مِنْهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا وَاحِدًا عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمِ فَإِذَا هُوَ عَشَرَةٌ وَنِصْفٌ أَوْ تِسْعَةٌ وَنِصْفٌ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِعَشَرَةٍ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي أَخَذَهُ بِتِسْعَةٍ إنْ شَاءَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي الْأَوَّلِ يَأْخُذُ بِأَحَدَ عَشَرَ إنْ شَاءَ، وَفِي الثَّانِي بِعَشَرَةٍ إنْ شَاءَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَأْخُذُهُ بِعَشَرَةٍ وَنِصْفٍ إنْ شَاءَ، وَفِي الثَّانِي بِتِسْعَةٍ وَنِصْفٍ وَيُخَيَّرُ) وَجْهُ قولهِ (إنَّ مِنْ ضَرُورَةِ مُقَابَلَةِ الذِّرَاعِ بِالدِّرْهَمِ مُقَابَلَةُ نِصْفِهِ بِنِصْفِهِ فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُقَابَلَةِ)، وَحُكْمُهَا أَنْ يَجِبَ فِي مُقَابَلَةِ كُلِّ جُزْءٍ إضَافِيٍّ مِنْ الذِّرَاعِ مِثْلُهُ مِنْ الدِّرْهَمِ فَنِصْفُ الذِّرَاعِ بِنِصْفِ الدِّرْهَمِ وَرُبْعُهُ بِرُبْعِهِ وَثُمُنُهُ بِثُمُنِهِ وَهَكَذَا، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَيُجَزَّأُ الدِّرْهَمُ عَلَيْهِ: أَيْ يُقَابِلُ كُلُّ جُزْءٍ لَهُ نِسْبَةٌ خَاصَّةٌ بِجُزْءٍ كَذَلِكَ مِنْ الْآخَرِ، وَضَمِيرُ يُجَزَّأُ يَصِحُّ عَوْدُهُ إلَى كُلٍّ مِنْ الذِّرَاعِ وَالدِّرْهَمِ، إلَّا أَنَّ الدِّرْهَمَ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَإِنَّمَا يُخَيَّرُ فِي الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ سَلَامَةَ النِّصْفِ بِمُقَابَلَةِ ضَرَرٍ بِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا بِالْتِزَامِهِ، وَفِي النُّقْصَانِ لِفَوَاتِ وَصْفٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ وَهُوَ وَصْفُ الْعَشَرَةِ (وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا أَفْرَدَ كُلَّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ نَزَلَ كُلُّ ذِرَاعٍ مَنْزِلَةَ ثَوْبٍ مُفْرَدٍ) بِيعَ عَلَى أَنَّهُ ذِرَاعٌ لِمَا عُرِفَ أَنَّ إفْرَادَهُ الذِّرَاعَ بِالثَّمَنِ يُخْرِجُهُ عَنْ الْوَصْفِيَّةِ إلَى الْأَصْلِيَّةِ، (وَقَدْ انْتَقَصَ) عَنْ الذِّرَاعِ فَلَا يُنْتَقَصُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ فِي الزِّيَادَةِ نَفْعًا يَشُوبُهُ ضَرَرٌ، وَفِي النُّقْصَانِ فَوَاتَ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الذِّرَاعَ وَصْفٌ فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا أَخَذَ حُكْمَ الْمِقْدَارِ بِالشَّرْطِ) وَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَقول: حُكْمُ الْأَصْلِ أَوْ الثَّوْبِ الْمُنْفَصِلِ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْمِقْدَارَ أَيْضًا وَصْفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَأَخْذُهُ حُكْمَ الْأَصْلِ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِهِ ذِرَاعًا، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لَمْ يُوجَدْ مَا أَخَذَ حُكْمَ الْأَصْلِ فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ مِنْ كَوْنِهِ وَصْفًا لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَلَا وَجْهَ لِثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهُ فِي فَصْلِ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْحَقْهُ ضَرَرٌ فِي مُقَابَلَةِ الزَّائِدِ بَلْ نَفْعٌ خَالِصٌ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ مَعِيبًا فَوَجَدَهُ سَلِيمًا، وَيَتَخَيَّرُ فِي النُّقْصَانِ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ، ثُمَّ مِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ اخْتَارَ قول مُحَمَّدٍ، وَفِي الذَّخِيرَةِ قول أَبِي حَنِيفَةَ أَصَحُّ، وَذَكَرَ حَاصِلَ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ لَهُ.
وَفِي قولهِ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِهِ ذِرَاعًا إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ قول مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَنْقَسِمُ أَجْزَاءُ الدِّرْهَمِ عَلَى أَجْزَاءِ الذِّرَاعِ فَقَالَ هَذَا إذَا كَانَ تَمَامُ الذِّرَاعِ مَوْجُودًا وَالْمَوْجُودُ هُنَا بَعْضُهُ وَبَعْضُهُ لَيْسَ كُلَّهُ فَكَانَ لِلْبَعْضِ مِنْهُ حُكْمُ الْوَصْفِ لِانْعِدَامِ الْمُقَابَلَةِ.